هل هناك من جدوى الآن، بعد انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة في نوفمبر، في العودة مجدداً للحديث عن تاريخ الحرب على العراق؟ أجل. فأية فرصة للخروج من المستنقع العراقي ستتعرض للعرقلة من قبل الأشخاص الذين ينعتون مخالفيهم في الرأي بالضعف والتهاون في قضايا الأمن القومي، ويصورون أنفسهم كالأبطال الذين يحافظون على سلامة أميركا. لذا من المهم أن نعرف كيف أن هؤلاء الأبطال أنفسهم أضعفوا أميركا بتصرفاتهم.
وبالطبع، لم يكن غريباً ألا تحظى "مذكرة مقر رئيس الوزراء البريطاني" في لندن إلا بالنزر القليل من التغطية الإعلامية الأميركية. والمذكرة هي، في الواقع، عبارة عن محضر اجتماع لرئيس الوزراء البريطاني عقد في 23 يوليو 2002 مع مسؤولين حكوميين كبار حول ما دار بينهم وبين إدارة الرئيس الأميركي بوش من محادثات حول العراق. غير أن ما أكدته هذه المذكرة التي تم تسريبها أثناء حملة الانتخابات البريطانية هو ذاك الشيء الذي طالما كان المدافعون عن الحرب يحاولون إنكاره، والمتمثل في أن الإدارة الأميركية طبخت قضية الحرب التي كانت تريدها على العراق.
وإليكم مثالا على ما جاء في المذكرة ويدعم قضية الطبخ تلك وتلفيق أدلة عارية عن الصحة "لقد أصبح ينظر الآن للعمل العسكري في العراق كأمر حتمي لا رجعة فيه، فالرئيس بوش كان يريد الإطاحة بصدام حسين عن طريق العمل العسكري مبرراً ذلك بالتقاء مسألتي الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل. غير أن ما حدث هو ترتيب المعلومات والحقائق الاستخبارية وإعدادها بشكل يوائم سياسة بوش".
لماذا إذن كانت الإدارة الأميركية ترغب في غزو العراق بينما المذكرة تذكر "أن القضية كانت بلا أساس" وبأن "القدرات النووية لأسلحة صدام حسين كانت أقل من قدرات ليبيا وكوريا الشمالية أو إيران؟ والجواب عن السؤال هو أن العراق كان ينظر إليه كهدف ضعيف سهل المنال. وبصرف النظر عن الامتيازات السياسية، سيكون النصر السريع في العراق بمثابة عرض للقوة العسكرية الأميركية، وهي القوة التي ستصدم العالم وترعبه.
بيد أن الحرب على العراق أظهرت، في المقابل، محدودية القوة الأميركية ومنحت تلك القوة لأعدائنا المحتملين. فلماذا سيبدي الآن رئيس كوريا الشمالية كيم جونج أدنى خوف منا ونحن لا نستطيع حتى تأمين الطريق من بغداد إلى المطار؟ واللافت للانتباه أنه في هذه اللحظة بدأت أصداء حرب فيتنام تتردد على نحو لا يمكن إنكاره. ذلك أن ما تورده التقارير حول الهجوم الأخير الذي تشنه القوات الأميركية بالقرب من الحدود السورية يشبه إلى حد كبير تلك التقارير التي كانت ترد سنة 1960 عن المهمات التي كان يقوم بها الجيش الأميركي في فيتنام كالبحث عن العدو وتدميره وإحصاء عدد القتلى وما إلى ذلك. فضلا أن المراسلين الذين يبعثون تقاريرهم من ساحات المعارك يفيدون أن المتمردين تصلهم مسبقاً التحذيرات من الهجمات، وهم غالبا ما يتبخرون في الأجواء تاركين أمر القتال في الوقت الذي يختارونه.
وفي غضون ذلك تشهد أميركا تدهورا مطردا في موقعها الاستراتيجي. فبالرغم مما أفاده تقرير جينز حول الصناعة العسكرية من أن ما ستنفقه الولايات المتحدة على الدفاع خلال السنة المقبلة يعادل ما سينفقه العالم مجتمعا، إلا أن وزارة الدفاع الأميركية تقر الآن بالصعوبات الجمة التي تواجهها في استقطاب مجندين جدد، وتقر كذلك بصعوبات التعاطي مع أعداء محتملين يمكنهم أن يشكلوا خطرا حقيقيا بخلاف الخطر المزعوم لعراق صدام حسين والذي لم يكن سوى أضغاث أحلام. وبعبارة أخرى، إن الأشخاص الذين زجوا بنا في أتون الحرب في العراق قاموا بالضبط بما كانوا يتهمون خطأ بيل كلينتون بالقيام به: لقد جردوا أميركا من قدرتها في الرد على التهديدات الحقيقية.
وبالرغم من أن الأشخاص الذين أقنعونا بهذه الحرب مازالوا يصرون على أن النجاح قريب جداً وفي متناول اليد، وبأن الأمور ستكون على أحسن ما يرام لو فقط توقفت وسائل الإعلام عن بث الأخبار السيئة، إلا أن الإدارة الأميركية سبق وأن أعلنت النصر في العراق أربع مرات على الأقل دون أن يتجسد ذلك في الواقع. ويبدو أن انتخابات يناير الماضي لم تكن هي الأخرى سوى منعطف حاسم من تلك المنعطفات التي لم تَرَ النور أبدا.
ومع ذلك، يبقى من الصعب مناقشة مسألة الانسحاب من العراق، فحتى الأغلبية ممن عارضوا بشكل صارخ الحرب على العراق يرون أننا يجب علينا البقاء في العراق ما دمنا متواجدين الآن هناك. وفي الحقيقة، وقعت أميركا رهينة نفسها. فلا أحد منا يريد تحمل مسؤولية ما قد يحدث من فظاعات في حال خروجنا من العراق (رغم أن الفظاعات تحصل بالفعل ونحن هناك)، كما أنه لا أحد يرغب في أن يخبر أهالي الجنود الأميركيين المحزونين بأن أبناءهم ماتوا سدىً وبدون طائل، بالإضافة إلى أنه لا أحد يريد أن تتهمه إدارة بوش، والتي لها باع طويل في الانتقاص من وطنية الأشخاص، بطعن الجنود من الخلف والتخلي عنهم.
إن الجيش الأميركي لا يغوص فقط في مستنقع العراق، بل تتردى حالته تحت التوتر والإجهاد اللذين