بعد قرار البرلمان المصري بتعديل المادة الدستورية الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، تبين أنّ مسألة الاستفتاء ما تزال قائمة. وقد دفع ذلك حركة "كفاية" المعارضة لولاية خامسةٍ للرئيس مبارك، إلى الإعلان عن مقاطعة الانتخابات، ودفع الإخوان المسلمين إلى زيادة تظاهُراتهم من أجل الإصلاح السياسي من جهة، والمطالبة بشرعنة وجودهم تنظيماً سياسياً معتبراً من جهة ٍثانية. ويُنتظر أن لا تتوقف الاحتجاجاتُ عند حدود "كفاية" والإخوان. لكن من جهةٍ أخرى لا يبدو أنّ السلطات المصرية ترغبُ أو هي مرتاحة لدفع رجالات الشرطة وأجهزة الأمن في مواجهة المتظاهرين، الذين لا تقتصر مطالبُهُم على تعديل طريقة انتخاب الرئيس؛ بل تتعدى ذلك إلى إلغاء قانون الطوارئ أو رفعه، وإلى قانون جديد للأحزاب، واستقلالية حقيقية للقضاء، وتعامُل آخر مع قضايا التنمية، والمسائل الاجتماعية.
إنّ ما جرى بمصر، وإلى حدٍ ما بالمغرب، يوضّح إمكانيات الإصلاح من جهة، وحدود قدرات السلطات وحدود إرادتها السَيْرَ باتجاهاتٍ جديدةٍ من جهةٍ أُخرى. ولا شكَّ أنّ أوضاع المغرب أفضل حالاً من أوضاع مصر، لجهة وجود أحزاب سياسية قوية نسبياً، وعدم وجود حزب حاكم، والاستقرار في رأس السلطة الملكية. بيد أنّ المشترك بين هذين البلدين العربيين الرئيسيين هو تفاقُم المشكلات الاقتصادية، الناجمة عن التضاؤل في النمو، وبؤس أوضاع الريف، وتكلُّس النُخَب السياسية، وعدم وجود فصل حقيقي بين السلطات، وعدم الانفتاح على التيارات الإسلامية الصاعدة.
وقد قامت الملكية المغربية بمبادراتٍ تنمويةٍ وسياسية، وأُخرى لتحسين أوضاع الريف والمرأة، في السنوات الماضية. بيد أنّ تلك الخطوات ظلّت قاصرةً عن تحريك المجال السياسي، وعن تحسين شروط النمو وظروفه. أمّا في مصر فقد كانت هناك إجراءاتٌ لتهدئة السوق المالية والنقدية والاقتصادية. ثم تصاعدت الآمالُ بتحريك المجال السياسي مع اقتراح الرئيس مبارك تعديلَ الدستور. وهناك استقرارٌ نسبيٌّ في السوق المالية الآن، لكنْ ليس هناك تحسُّنٌ كبيرٌ في نِسَب النمو، والتعديل الدستوري جاءت نتائجه مخيبةً للآمال؛ إذ إنه سيُبقي الحزب الحاكم حاكماً، وكذلك رئيس الجمهورية الذي ظلَّ في منصبه منذ اغتيال الرئيس السادات عام 1981. ويتعرضُ البلدان لضغوطٍ من الولايات المتحدة باتجاه التحرير الاقتصادي، وفتح المجال السياسي. بيد أنه لا ارتباط بين الأمرين حتى الآن. فالمجال السياسيُّ يبقى مغلقاً على الحزب الحاكم بمصر، وفي المغرب تظلًّ الشرذمةُ سائدةً بسبب قانون الأحزاب والدوائر الانتخابية؛ والذي لا يمكن من تشكيل حزب أكثرية بالانتخابات، فيبقى الملكُ هو الحكَمُ والحاكم في المجال السياسي، رغم أنّ الملكية في المغرب دستورية. وهكذا هناك في البلدين العربيين الكبيرين حركة اجتماعية وسياسية قوية باتجاه التغيير؛ لكنّ السلطات الحاكمة لا تتجاوبُ معها بطرائق ملائمة بحجة الحفاظ على الاستقرار. ثم لاختلاف السياسة الأميركية عن الأُخرى الفرنسية في المنطقة، وتجاه المغرب أكثر منها تجاه مصر. بمعنى أنّ الفرنسيين يحتضنون السكونية المغربية لنفوذهم هناك، بينما تبدو مصر في مهبّ رياح التغيير الداخلية والخارجية. ولذلك يُنتظر أن تستمر الأمور في التطور والتصاعد.
أما المحور أو المعسكر الثاني فهو يتكون من الدول التي يجتاحُها الاضطراب السياسي وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة مثل الجزائر واليمن وتونس وسوريا ولبنان والسودان والعراق. فالمشتركُ في هذه الدول، رغم الاستقرار الأمني في بعضها مثل سوريا ولبنان وتونس، الحاجةُ الملحةُ للتغيير السياسي، والحاجةُ الملحةُ للتنمية والنمو. تكادُ الجزائر تخرجُ من ظروفٍ تشبه الحرب الأهلية اللبنانية السابقة؛ وإن يكن طرفاها هما الجيش والإسلاميون المتمردون. بيد أنّ الاستقرار الكامل يتطلب تغييراً سياسياً تتباطأُ السلطاتُ في السير نحوه، مطمئنةً بعض الشيء لزيادة الموارد النفطية، وتحسُّن العلاقات مع فرنسا والولايات المتحدة.
أمّا في اليمن؛ فقد حدث تمردٌ في أوساط الطائفة الزيدية، بعد أن كان الإزعاجُ آتياً بالدرجة الأولى من جانب الأصوليين أو السلفيين السنة. والواضحُ أنّ الأمر مثله في مصر يتطلب تغييراً باتجاه توسيع المشاركة السياسية، والسير في خطواتٍ باتجاه التنمية؛ إذ تقف اليمن في مقدمة الدول العربية التي يقع 50% من مواطنيها تحت خطّ الفقر. ولولا الجمودُ السياسيُّ الشديد لما أمكن وَضْع تونس ضمن دول هذه الفئة. فقد حقّقت نمواً مقبولاً في السنوات الفائتة رغم أنها ليست دولةً بترولية. ولا مشكلةً في استقرارها الأمني؛ بيد أنّ هناك حزباً حاكماً، ورئيساً لا يملك إرادة للتغيير باتجاه توسيع المشاركة السياسية كما بدا من الانتخابات البلدية الأخيرة، والتي حصل الحزبُ الحاكمُ فيها على نسبة 94% من الأصوات والأعضاء!
وإلى هذه الحالة ينتمي الوضع السوري أو النظام السوري. فهناك استقرارٌ أمنيٌّ مفروض. لكنْ هناك جمودا اقتصاديا كبيرا. وهناك فشلٌ في لبنان وخروجٌ مُدَوٍ منه.