موقف المسلمين تجاه العلمانية واضح, كما يتمثل في أقوال كثير من العلماء والفقهاء. وهو موقف يصف العلمانية بالكفر والإلحاد, ويتهمها بالانحلال المشوب بالكثير من الفوضى الأخلاقية. وهذا موقف أخلاقي انتقائي يعكس تصور المسلمين للقضية من خلال علاقتهم السجالية مع الغرب. إنه لا ينطلق من تصور للعلمانية كما ظهرت وتطورت في أوروبا, بقدر ما ينطلق من رؤية صراعية مسبقة للغرب, أو الآخر كما يتحدد في مقابل الإسلام.
تعني العلمانية فصل الدين عن الدولة. وهذا يشير بشكل محدد إلى أمرين: الأول فصل عملية التشريع عن الدين, بحيث تصبح مرجعية التشريع هي الدستور الوضعي, وليس الكتاب المقدس.
والثاني هو نزع الهوية الدينية عن الدولة بحيث تصبح دولة مدنية علمانية, أو دولة وطنية. والأخير يتضمن أن علاقة الدولة مع المجتمع هي في الأساس علاقة قانونية وسياسية, وليست مبنية أو مشروطة بشروط دينية. قانونية بمعنى أنها علاقة مواطن بدولته على أساس من دستور يحقق الإجماع, ويؤسس للمساواة بين المواطنين, لا فرق في ذلك بين متعلم أو غير متعلم, ولا فرق على أساس ديني أو أي شكل من أشكال الأيديولوجيا الإقصائية مثل الأصل الإثني أو الجنس, أو اللغة. بعبارة أخرى, علاقة الدولة مع المجتمع هي علاقة مع مواطنين, أفرادا أو من خلال مؤسسات سياسية أو نقابية أو غير ذلك. وهي بذلك علاقة سياسية بمعنى أنها اجتماعية ينتظم فيها جميع المواطنين في العملية السياسية داخل الدولة, من تصويت وانتخابات, وصراعات سياسية, وتحالفات, ...الخ.
العلمانية بهذا المعنى, وإن كان مختزلا, جاءت نتيجة تجربة تاريخية طويلة ومريرة في التاريخ الأوروبي. والسبب الرئيس الذي أطلق الشرارة الأولى للتحولات التاريخية الكبرى التي انتهت بأوروبا إلى تبني العلمانية كمفهوم مركزي للحكم كان الهيمنة التي نجحت الكنيسة الكاثوليكية, وكانت مؤسسة كبيرة, في بسطها على مؤسسة الدولة أثناء العصور الوسطى. ونتيجة لذلك تردت أحوال المجتمعات الأوروبية على كافة المستويات. وقد ترافق مع ذلك انتشار الاستبداد, وتفشي الخرافة, وتمكن الجمود من مفاصل حياة المجتمع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. كانت تلك المجتمعات تعيش حالة ريفية راكدة تحت مظلة نظام الإقطاع الاجتماعي الاقتصادي. كان هذا النظام يقوم على العبودية بين مالك الأرض, السيد, وذاك الذي يعمل على فلاحتها, أو القن. في القرن السادس عشر انطلقت ما يعرف بـ"حركة الإصلاح الديني", وهي حركة بدأت من داخل الكنيسة الكاثوليكية لتنفصل عنها وتؤسس ما أصبح يعرف بـ"المسيحية البروتستانتية".
من هنا بدأت ملحمة التحولات والصراعات الكبيرة التي عصفت بالمجتمعات الأوروبية. وهي مرحلة اتسمت بالحروب المتتالية, والصراعات المريرة بين الدول, والمدن, وداخل الدول, وأحيانا داخل المدن. وابتداء من القرن السابع عشر أخذت الثورات تتوالى في أوروبا. والغريب في الأمر حقا من الناحية التاريخية هو التزامن الذي حصلت فيه الثورات السياسية مع الثورات العلمية والفكرية والاجتماعية. بحيث انفجرت كل هذه في فترات زمنية متلاحقة, وأخذت تعتمل داخل المجتمعات الأوروبية وتعصف بها. وقد استمر ذلك ما لا يقل عن أربعة قرون. ولعلنا نتذكر أن آخر الحروب التي عرفتها أوروبا كانت الحرب العالمية الثانية, وهي حرب كلفت روسيا لوحدها أكثر من سبعة وعشرين مليون نسمة.
المجتمعات التي خرجت من هذه العواصف والتحولات الكبيرة تختلف تمام الاختلاف عن المجتمعات التي بدأت من داخلها هذه التحولات. فالمجتمعات الإقطاعية تحولت إلى مجتمعات رأسمالية. وأبرز ما يميز هذه المجتمعات هو انقلاب بنيتها الاجتماعية من بنية يهيمن عليها تحالف الطبقة الأرستقراطية مع طبقة رجال الكنيسة, أو الأكليروس, إلى بنية تهيمن عليها الطبقة البورجوازية. هذه الطبقة الأخيرة كانت تعرف بالطبقة الوسطى في أواخر المرحلة الإقطاعية. ثم تحول النظام السياسي من نظام تقليدي مطلق السلطة باسم الدين والامتيازات الطبقية إلى نظام ديمقراطي حديث. وبالتزامن مع ذلك ترافق استبدال إيديولوجيا الكنيسة (الدين) الغيبية إلى أيديولوجيا إنسانية تستند إلى حرية التفكير, والمنهج العلمي.
من هنا يبدو موقف المسلمين من العلمانية يشوبه الكثير من التبسيط. فهو من ناحية يهون من التجربة التاريخية لأوروبا, ويصادر القناعة التي رسخت في الوعي الجمعي الأوروبي من هذه المسألة, وهي قناعة صلبة لأن مرتكزاتها تمس مسائل سياسية وفكرية وفلسفية تتعلق أساسا بحقوق تعود للإنسان كمواطن اعتبرها منظرو العلمانية الأوائل حقوقا طبيعية تسبق قيام الدولة, ومن ثمَّ لا يحق لهذه الدولة أن تصادرها لأي سبب من الأسباب. والعلمانية في الغرب الآن تأخذ شكل الأيديولوجيا التي تهيمن على الوعي الجمعي, لا فرق في ذلك بين اليساري واليميني, وبين المتدين أو غير المتدين, والمحافظ أو الليبرالي. بعبارة أخرى, هناك إجماع شبه كامل على مفهوم العلمانية كصيغة للحكم. قد يكون هناك اختلاف على ما يمكن أن يمثل انتهاكاً لعلما