بدا قيصر روسيا الجديد كما يسمونه واثقاً من خطاه كعادته وهو يبدأ أولى رحلاته إلى بلدان المنطقة التي مثَّل الوصول إليها حلماً دائماً للسياسة الروسية منذ أيام القياصرة وحتى الآن مروراً بالحقبة السوفيتية. لكن الثقة التي يشيعها وقع خطى الرجل لم تفلح في إخفاء حقيقة التغير الجذري الذي ألمَّ بالواقع الراهن لعلاقة روسيا بالشرق الأوسط إذا قورن بمثيله منذ أربعين عاماً على سبيل المثال. في 1964 وبالتحديد في مثل هذا الشهر كان الرجل الأول في الاتحاد السوفيتي وقتذاك –نيكيتا خروشوف السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفيتي- يزور مصر لكي يشارك في احتفالات تحويل مجرى نهر النيل إيذاناً باكتمال مرحلة رئيسية من مراحل العمل في بناء السد العالي الذي كان رمزاً لتصميم دولة من دول العالم الثالث على أن تبني نفسها مستقلة عن قوى الهيمنة العالمية. أما اليوم فقد أتى الرجل الأول محملاً بأوزار صفقة صواريخ مضادة للطائرات باعتها روسيا لسوريا فأقامت الدنيا ولم تقعدها ودافع عنها صاحبها مازحاً في حوار تليفزيوني مع صحيفة إسرائيلية بأن أثرها لن يعدو أن يكون منع المقاتلات الإسرائيلية من التحليق فوق قصر الرئاسة السوري، ودافع عنها جاداً أثناء زيارته لإسرائيل بأنها صفقة ذات طبيعة دفاعية وأنه رفض طلباً لقادة الجيش الروسي ببيع صواريخ مداها 300 كلم لسوريا، وأن إسرائيل هي التي لا تريد أن تشتري أسلحة روسية! فما أبعد الليلة عن البارحة! في يوم من أيام نوفمبر1956 هدد القادة السوفيت إسرائيل في إنذارهم المشهور بأن وجودها نفسه أصبح موضع شك، وذلك إبان تواطؤها في العدوان على مصر مع بريطانيا وفرنسا، والآن يقف القيصر مدافعاً عن قراره ببيع حفنة من الصواريخ المضادة للطائرات لدولة تحتل إسرائيل جزءاً من أراضيها.
من حق القيصر دون شك أن يعاود طرق أبواب الشرق الأوسط وأن يحاول فتحها بعد أن أبلى بلاءً حسناً في معركة الاستقرار الداخلي والنمو الاقتصادي في روسيا وفي محاولة بلورة سياسة خارجية مستقلة لها تعزز المصالح الوطنية الروسية. ومن حقه أن يفعل ذلك لأن طموح روسيا في بناء علاقات تعاون وثيق مع بلدان المنطقة طموح مشروع على الأقل بحكم القرب الجغرافي والمصالح السياسية والاقتصادية المشتركة والميراث السابق للعلاقات السوفيتية- العربية، فالقرب الجغرافي كان دوماً وما يزال عاملاً مهماً من عوامل الاهتمام الروسي والسوفيتي بالمنطقة، لأن ما يحدث فيها لابد وأن يؤثر على المصالح الروسية، وبلغة اليوم فإن انفصال أكراد العراق مثلاً لا قدر الله سوف يمثل دعماً معنوياً لقضية انفصال الشيشان، ولذلك فإن روسيا لا تستطيع أن تتجاهل ما يحدث في العراق، وبلغة المصالح المشتركة لا شك أن روسيا تعول كثيراً على أن يؤدي تطوير العلاقات الروسية- العربية إلى دعم موقفها في المسألة الشيشانية، وتنظر في الوقت نفسه إلى الآفاق الرحبة للتعاون العربي- الروسي في المجالات الاقتصادية والعسكرية. يستند هذا كله إلى ميراث سابق للعلاقات السوفيتية- العربية لا شك أنه مثقل ببعض الرواسب لكنه في العموم يشير إلى نموذج فعال في تعاون دولي بناء ومثمر لصالح طرفيه.
من هذا المنطلق يبدو اهتمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتطوير علاقات بلاده ببلدان المنطقة مفهوماً، ولا شك أن خبراءه العديدين في الشؤون العربية قد أعدوا لزيارته لها جيداً، فاستهلاله لزيارة المنطقة بمصر مثل دون شك خطوة موفقة من المنظور العربي لإعطاء الانطباع بتوازن السياسة الروسية، ومن هذا القبيل أيضاً حرصه على زيارة الأراضي الفلسطينية بما يؤكد المنحى التوازني نفسه بالنظر إلى زيارة بوتين لإسرائيل، كما أن زيارته للجامعة العربية لا ريب مثلت بدورها خطوة موفقة، خاصة وقد حرص الرجل على أن يؤكد في الكلمة التي ألقاها لدى اجتماعه بالمندوبين الدائمين لدى الجامعة على أن روسيا تنظر للجامعة باعتبارها التنظيم الأمثل للعلاقات في المنطقة وذلك في مواجهة العداء الأميركي لفكرة الجامعة وترويجها بالمقابل للأفكار شرق الأوسطية. أخيراً فإن استعداده لتوسيع نطاق التعاون مع مصر والعرب بما يشمل الجوانب العسكرية أيضاً يمثل خطوة موفقة ثالثة، غير أن هذا كله لا يجب أن يحرف نظرنا بعيداً عن القيود الجديدة التي تحيط بمشروع إعادة الحياة للعلاقات العربية- الروسية.
أول هذه القيود ينبع من المنطقة، ففي منتصف خمسينيات القرن الماضي أرسلت الدولة القائد في النظام العربي في ذلك الوقت إشارات تعاونية واضحة، وكانت هناك حركة تحرر تاريخية تقودها مصر في الوطن العربي وصدام حتمي مع الغرب، واستجاب الاتحاد السوفيتي بتزويدها بالسلاح ودعمها في مشروعاتها التنموية الطموحة وعلى رأسها السد العالي. أما الآن فكم كان صادقاً ذلك الكاريكاتير الذي نشرته إحدى الصحف العربية الذي يظهر بوتين مكتئباً لأنه لا يرى من نافذة مقعده في الطائرة التي حملته إلى الشرق الأوسط سوى العلم الأميركي يغطي على كل ما عداه. وعلى الطرف الآخر في المنطقة بدت إسرائيل أيضاً ممانعة لأي ت