برزت مشكلة الحداثة في الفكر العربي الحديث يداً بيد مع بروز استحقاقات الاستقلال العربي عن جسد الإمبراطورية العثمانية، وخصوصاً كردٍ على حركة تتريك العرب، التي تعاظمت مع مجيء الانقلابيين، الذين أجهزوا على السلطنة الإمبراطورية. وكانت هذه المشكلة قد ظهرت في مراحل منصرمة جسّدت مرحلة ما بعد الغزو النابليوني لمصر واحدة من أكثرها جدلاً وإثارة في الفكر الحديث المذكور.
وإذا انطلقنا باتجاه مرحلة الاستقلال السياسية، التي حققتها بعض البلدان العربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا سنواجه عاملين اثنين كبيرين يقفان في وجه المحافظة على تلك الاستقلالات وعلى السّير قُدماً على طريق التحديث. برز الأول منهما في الوليد -الكابوس الجديد في الحقل العربي متمثلاً في دولة إسرائيل، في حين أفصح ثانيهما عن نفسه شيئاً فشيئاً في حركة جديدة مطّردة من الانقلابات العسكرية وما لازمها -بالدرجة الأولى- من محاولات قضم المشروع الاستقلالي السياسي الديمقراطي الجديد، وخصوصاً ما اتصل بـ"المجتمع السياسي".
وكان من شأن ذلك أن أنتج وضعاً إشكالياً مركّباً ومعقداً: إن التّعملق البطيء ولكن الحثيث لإسرائيل في قلب العالم العربي أخذ يتوازى مع عملية انكماش سريع وحثيث للمشروع العربي الاستقلالي، بما في ذلك عملية التحديث، التي كانت مطلوبة. ومع بروز فئات اجتماعية في المجتمعات العربية تعمل على الاستفراد بالثروة ومعها السلطة، أخذت مظاهر من "الحداثة" تفرض نفسها لتبيِّن - شيئاً فشيئاً- أنها صيغة من صيغ القسر، يفرضها الغرب الصاعد بقوة باتجاه طريق الثورة الصناعية والتكنولوجية والعلمية على ما استطاع اختراقه من تلك المجتمعات أولاً؛ وأنها - في أساسها- لم تخرج عن حاجات استهلاكية تلبّي رغبات تلك الفئات، دون أن يكون هنالك مجال لمرافقتها بتأسيسٍ لتقدم اقتصادي وصناعي وتكنولوجي ثانياً. ويتضح - مع عقود تالية- أن صيغة الحداثة القسرية المذكورة راحت تسهم في تخريب المجتمعات العربية، وتُنتج مشكلات جديدة تحولت شيئاً فشيئاً إلى "مِسمار جحا" في أيدي الخارج الغربي والإسرائيلي. وقد لوحظ أن الوضعية العربية المذكورة أسهمت في تعقيد أسئلة التحرير والنهضة والثورة والتقدم والعقلانية، وكذلك وبكيفية خاصة سؤال الحداثة.
ومع مزيد من الانهيارات العربية الداخلية، التي أفضت إلى نمط من الحطام الكبير، الذي نعيش فصوله وعقابيله في مرحلتنا الراهنة، تنشأ فئة من الكتاب والمثقفين العرب، الذين - تحت التأثيرات العولمية الخطيرة الجارية- يجدون أنفسهم مدفوعين صوب العولمة وتجلياتها المتمثلة، خصوصاً، بتقدم هائل على صعيدي الاتصالات والمعلومات. وهم - في هذا- ربما يفقدون السياق التاريخي لكل ما يحدث، ليصلوا إلى أن "الأمور الراهنة" المعيشة في العالم العربي هي هي، أي تتحدر من مرجعيات فطرية خارجة عن التاريخ.
من تلك النتيجة صنع بعض أولئك المثقفين مقدمة، أرادوا لها أن تنسحب على واقع الحال السياسي والسوسيوثقافي والحضاري العولمي العربي. وفي هذا، يميز اثنان من أولئك (وهما حازم صاغية وصالح بشير: انظر كتاب -ثقافة الاستسلام لمؤلفه بلال الحسن) بين "الحق" و"الحداثة". فهذه الثنائية تمثل - لدى الكاتبين- ثنائية أوروبا والعرب. فالثانية منهما تبدو، وفق ذلك، متماهية مع أوروبا أو الغرب عموماً، في حين يبدو الأول (الحق) منحازاً للعرب. أما التوافق بين الأمرين فليس محتملاً، خصوصاً بدءاً من الغزو الغربي الاستعماري الحديث للشرق عامة، والعالم العربي بخاصة. وحين يطبّق الكاتبان المذكوران ثنائيتهما على العلاقة بين الانتفاضة الفلسطينية وإسرائيل، يتضح لهما أن "الانتفاضة الفلسطينية (هي) من تجليات معركة العرب ضد الحداثة"، وما يلحق بها من حيثيات مثل العقلانية والديمقراطية والتاريخية.
ومع الإشارة إلى أن القول السابق يُدخل "إسرائيل في الغرب الحداثوي"، فإنه ينطلق من أنه من طبائع الأمور "العربية" أن يكون العرب خارج دائرة الحداثة، التي ستكون والحال كذلك "خصوصية غربية"، مع الاحتفاظ بكون العرب يملكون "حقاً". وهنا، إذ قُدنا الفكرة إلى نهاياتها المنطقية، فإنه سيترتب عليها الوصول إلى الأطروحة التالية: إن حقاً دون حداثة، هو بمثابة حلم، قابل للانقشاع. ومن ثم، فمن الضروري، إذا أريد لهذا الحق أن يجني ثماره، فعلاً، فعليه أن ينصاع للحداثة، للقوة القادرة على اختراق العالم: إنه خطاب القوة الطاغية الصماء، وإنه ثانياً دعوة إلى الاندراج فيها أو الخروج من التاريخ: إنه خطاب الاستباحة.