يندر أن أقابل أحداً دون أن يبث همه إلي في مسألة واحدة على وجه الخصوص. يقترب برأسه من أذنك وكأنما سيمرر إليك سراً عسكرياً... كأنما سيقول لك عن مكان أسلحة الدمار الشامل، أو سيخبرك عن مكان اختفاء ابن لادن... ثم يقول لك بصوت هامس وكأنما جاب الذيب من ذيله: يا أخي ملل!
الشعور بالملل يجتاح الجميع في أحيان كثيرة، لكن عظمة خلق الله للإنسان أن جعله كائناً متطوراً مكتسباً.
لو لم يكن الإنسان يتعلم كل يوم شيئاً جديداً لتضاعف إحساسه بالملل، لأن الحياة ستتشح بالتقليدية، وتتزر بالكلاسيكية، ويصبح اليوم مثل أمس، وهذه السنة كقبل عشر سنوات.
كل الذين يواجهون الملل مسؤولون عن حياتهم هذه لأنهم لا يحاولون أن يطوروها، باكتساب معرفة جديدة، أو مهارة حديثة، يمكن أن تضفي على الحياة طعماً جديداً، وأحاسيس مختلفة.
قبل فترة نقلت وكالات الأنباء خبر مسن كيني في الثمانينات من عمره التحق بمدرسة ابتدائية لتعلم القراءة والكتابة والحساب مع التلاميذ الذي يصغرونه بأكثر من سبعين عاماً. قال المسن الكيني الذي ارتدى (اليونوفورم) المدرسي إن لديه هدفين لدراسته، أحدهما على المدى القصير أن يتعلم قراءة الإنجيل، واحتساب دخله بنفسه، وهدفه على المدى الطويل أن يصبح مستقبلاً طبيباً بيطرياً.
معمر آخر من سنغافورة بلغ من العمر مئة عام، بحسب وكالات الأنباء. وسنغافورة بلد لا يتجاوز عدد سكانه 4 ملايين نسمة، وهي معروفة بأن شعبها من أقل الشعوب ممارسة للجنس، إذ ينخفض فيها معدل المواليد بصورة مقلقة، لكن ذلك كله لم يمنع المئوي من استخدام الفياغرا، ربما ليؤكد اعتراضه على انخفاض نسبة المواليد في بلاده. السنغافوري لم يسأم من الحياة، بدلالة استناده إلى الحبة السحرية الزرقاء الفائقة النكهة!
القصة الشخصية حدثت لي في صفوف قاعة لتعلم أساليب الكتابة في الولايات المتحدة، وبطلتها عجوز أميركية جاوزت السبعين من عمرها. كنت أفكر كثيراً: ماذا ستستفيد هذه العجوز من تعلم أساليب جديدة في الكتابة وهي في هذا العمر؟
هل ستستخدم شهادتها مثلاً للحصول على مرتبة وظيفية أعلى وهي التي تقاعدت من عملها قبل أكثر من عقد كامل؟!
كانت الإجابة غير المنطوقة، أن هؤلاء لا يريدون لهذا الملل أن يتسلل إلى حياتهم!
قارنت بين حماس هؤلاء المعمرين للحياة وحديثهم عن المستقبل كما لو كانوا شباناً في العشرينات، بما نعيشه ونردده في مجتمعاتنا العربية، من عبارات تكرس شيخوخة مبكرة إن لم تكن بدنياً ففكرياً على الأقل، نبدؤها أحياناً في العشرينات أو الثلاثينات، وكثيراً ما تعيقنا عن التفكير في المستقبل، مثل:"لم يبق من العمر أكثر مما مضى"، و"راحت علينا الدنيا"، أو حتى "العلم في الكبر كالنقش في الماء". وعندما نشتهي نستفزع بالتراث ليثبطنا عن العمل والإقبال على المستقبل، وفي التراث غنية للمنتقي.
نحتاج إلى دفعات كبيرة تجعلنا نفكر في المستقبل، في سبيل حياة أكثر جمالاً، واهتمامات تزيد من قيمة الإنسان في الحياة، لا سيما والتفكير في المستقبل وفي الحياة، تعضده نصوص دينية ففي الحديث: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، واستطاع ألا يقوم، حتى يغرسها، فليغرسها". عمارة الأرض هدف من أهداف الخلق، والذين يتسرب إليهم الملل لا يجيدون البناء، هذا إذا لم يتقنوا الهدم عياذا بالله!.