هذه التعبئة الإعلامية المعادية للولايات المتحدة والغرب، الصادرة عن الصحف والندوات والفضائيات والشخصيات السياسية العربية، والتي تكاد تصم آذاننا وتغرقنا إعلامياً... كارثة حقيقية على حاضرنا ومستقبلنا. الكل يتحدث عن مخاطر المؤامرة الأميركية-الصهيونية، عن المخطط اليميني المسيحي-اليهودي، عن احتكار النفط والتجارة والاستثمارات، عن الخطة الجهنمية التي تحرك الغزو الثقافي والعولمة، عن التنسيق بين "الموساد" والاستخبارات الأميركية والغربية لتفكيك العالم العربي وتدمير شباب الجامعات.
الكل يسلط الأضواء على القادم من الخارج، والقادر على أن يفعل بنا وببلداننا ما يشاء، ويغوص الكل في تفاصيل ومفاصل هذه المخططات وبداياتها وأطرافها، وينتقل في تحليله بين سنوات الحرب الباردة إلى الأحادية القطبية بزوالها، ومن حلف بغداد إلى طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن ايزنهاور ودالاس إلى الرئيس بوش ورامسفيلد.
لا أحد يود الالتفات إلى دورنا نحن في التمهيد لكل ما حل ويحل بنا، لا أحد يود أن يحاسب نفسه ودولته وقومه ودوره قبل أن يتحدث عن الآخرين. بات الكثيرون من القراء والمشاهدين يتعاملون مع الأطروحات تعامل المشاهد الهندي مع أفلام "بوليوود"، كلما كان المضمون والديكور ونهاية الشريط أبعد عن الواقع والاحتمال، كان انتشاره أوسع.
الثقافة السياسية والاقتصادية والأدبية لبلدان العالم المتقدمة صارت في وادٍ، وبضاعتنا الفكرية القديمة وأفكارنا اللاواقعية المتخلفة, في وادٍ آخر.
منتقدونا يتساءلون: لماذا لا تكون مصر كالهند والصين، وسوريا والأردن والمغرب والجزائر, مثل كوريا الجنوبية... ودول الخليج, مثل ماليزيا وسنغافورة وهونغ كونغ؟
لماذا منذ خمسين سنة ونيف نتحدث ونتوعد ونشكك ونعارض ونعترض ونهدم ونبني في عشرين دولة ولا نكاد ننجح... أو نسكت كي نسمع الآخرين! لماذا بعد نصف قرن من التهديد والوعيد، وهيمنة التيارات الأصولية والوصولية لا تزال بلدان هذا العالم العربي تكاد تحتكر الفقر والبطالة والأحلام الميتة!
طغيان الجعجعة السياسية والبطولة الإعلامية على تفكيرنا السياسي، والغرق في الأحلام الشعبوية على كل صعيد، وعدم مصارحة الجماهير بواقع المأساة التي يعيشها معظمهم بات مشكلة حقيقية اليوم! هذا الفرار الذي يعيشه المثقف والإعلامي والسياسي العربي من حقائق الوضع، والاختباء خلف الكلمات والشعارات, وكيل الشتائم لإسرائيل وأميركا وبريطانيا وفرنسا, صار في الواقع أفيوناً لنا!.
إنني أرى على الأقل ست نتائج سلبية ناجمة عن هذه الطريقة الغوغائية والشعاراتية التي نتعامل فيها مع قضايانا: الديمقراطية، التنمية، المرأة، فلسطين، الإرهاب، دور الدين... إلخ، وهي:
أولاً: إفساح المجال للتيارات المتطرفة والقوى المتشددة بالبروز والهيمنة على الجماهير والتطورات السياسية.
ثانياً: إرهاب الفئات والشرائح الاجتماعية والفكرية المعتدلة. إذ كانت مصر مثلاً تعج بأمثال هؤلاء في زمن الثورة، مثلها مثل دول عربية عديدة أخرى، أما عن المعارضة المهاجرة في أوروبا وأميركا ودول أخرى فحدث ولا حرج. والمؤلم في واقع العالم العربي أن الكثير ممن عارضوا الأنظمة السابقة لا يزالون غير قادرين على اختراق الإعلام العربي أو الوصول بشكل صريح علني إلى الجمهور، ولا يزال الطرح الرنان أشد هيمنة على نفوسنا. إن النموذج الحي في هذا المجال هو القضية الفلسطينية, فقد تم عزل كل القيادات المعتدلة والعائلات الفلسطينية المعروفة والثرية ودعاة الصلح والواقعية السياسية، وها هي النتيجة التي نعيشها اليوم. أضف لهؤلاء كذلك ما فعلته التجارب السياسية في مختلف الدول العربية بالفئة التي سميت بالإقطاعية والرأسمالية والبرجوازية، والتي حُطمت مصالحها دون أن يتصور أحد من الساسة العرب أو المثقفين بأن الاشتراكية ستندحر وتنتصر الرأسمالية من جديد!
ثالثاً: يؤدي تركيز الطرح العربي على الشعارات والمبادئ النظرية المثالية والتصورات الدينية إلى تضليل الجمهور وإبعاد الشعوب عن الطريق الصحيح للانطلاق والنهوض. ولهذا فإن الجمهور في العالم العربي بما يرفع من شعارات ومطالب سياسية، وما يظهر من عدم التفات إلى مصالحه المهنية والمادية والمعيشية، يعد من أصعب الكتل السياسية على الفهم الموضوعي. يجتمع أطباء الأسنان العرب في مكان ما، ثم تتضمن مطالبهم انسحاب القوات الأميركية من العراق! يلتقي السينمائيون العرب في مكان آخر، فيدينون بشدة تحركات الفئة المغامرة في موريتانيا! ويعقد المدرسون ندوة حول مستقبل التعليم في العالم العربي، فيرسلون برقية تأييد لديكتاتور عربي لعب دوراً أساسياً في تحطيم حياة شعبه وبلاده. رابعاً: تهدئة النفس بتفريغ كاذب عقيم للهموم، أو الاكتفاء بتسجيل المواقف للتاريخ، أو الاستمرار "الرجولي" على الكلمة والوفاء الفكري لنفس الخط. الإعلاميون والمثقفون في بلداننا يعطون الأولوية لبقائهم واستمرار وجودهم ونجوميتهم، ولا يكترثون حقاً بالتحولات الدولية.
خامساً: يهتم مثقفون