عندما تولت الولايات المتحدة الأميركية مقاليد السلطة في الفيليبين عقب الحرب الأميركية- الإسبانية سنة 1899، كتب الشاعر البريطاني روديارد كيبلين قصيدة يمتدح فيها الإمبريالية. وكانت اللازمة التي يكررها في القصيدة هي:"لتتحمل مسؤوليتك أيها الرجل الأبيض". ومع نهاية الحرب العالمية الثانية أصبحت كلمة "استعمار" معيبة وثقيلة على اللسان، وهكذا وجدت الفيليبين نفسها كما باقي المستعمرات الأخرى تحصل على استقلالها وتتحرر من نير الاستعمار الذي ظل جاثما على صدرها طيلة عقود خلت.
أما الآن فإن دعوة كيبلين بنشر الحضارة، كما كان يراها، في ربوع العالم تشهد انتعاشة جديدة لتصاغ هذه المرة كالتالي: "لتتحمل مسؤوليتك أيها الرجل الغربي"، فالدول الصناعية تتساءل مرة أخرى عن الكيفية التي يمكن بها مساعدة الدول الفقيرة لتكون أرشد حكما وأوفر ازدهارا. وهذا بالضبط ما يطلق عليه ستنلي إنجرمان، الخبير الاقتصادي من جامعة روشستر، "الإمبريالية الجديدة الجديدة". وتتعاطى الإمبريالية الجديدة هذه، في حال وجودها طبعا، أكثر مع الاقتصاد منها مع السيطرة السياسية التي كانت قائمة في الماضي. وهذا ما حدا بالاقتصاديين إلى التنقيب في بعض مبادئ الاستعمار وتصوراته علهم يكتشفون العوامل التي تشجع الدول الفقيرة على التقدم والعوامل التي تحبط هذا التقدم.
ويظهر ذلك جليا فيما تحاول النقابات العمالية فرضه على الدول النامية من "معايير عادلة في العمل"، أو محاولة الدول الصناعية تقديم الدعم للدول النامية عبر المؤسسات الدولية العديدة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات إنمائية أخرى في المجال الفني والاقتصادي والاستشارات الحكومية. غير أن هذه المساعدات غالبا ما تتحول إلى أداة لفرض الأفكار والقيم الغربية على باقي الأمم. وهذا ما فهمته الدول النامية، إذ تعتبر هذا الوجه الجديد للإمبريالية شبيها إلى حد كبير بالاستعمار في عباءته القديمة، ولا يختلف عنه إلا في مسألة الاحتلال الدائم الذي لم يعد وسيلة للسيطرة كما كان عهد الاستعمار في السابق.
ويشكل العراق مثالا واضحا على الإمبريالية الجديدة، فحينما أمر الرئيس بوش بغزو العراق كان الهدف هو البحث عن أسلحة الدمار الشامل وإزالتها، وعندما لم يجدوا لها أثرا تطور الهدف المعلن ليصبح الإطاحة بالديكتاتورية وإحلال الديمقراطية. ولم ينطل هذا الهدف المزعوم على بعض الأوروبيين والعرب الذين ظل يساورهم الشك من أن أميركا لا تريد سوى تأمين سيطرتها على النفط. ولئن كان العديد من الأميركيين يعتقدون أنه تقف على عاتقهم مهمة المساعدة على نشر الديمقراطية والاقتصاد الحر، فإن السؤال هو إلى أي حد يمكنهم تحمل ذلك العبء الثقيل.
وها نحن نرى كيف تحولت تلك "المساعدة" في العراق إلى خسائر كبيرة في الأرواح بلغت 1500 قتيل من القوات الأميركية وإهدار أموال تقدر بمليارات الدولارات، ما حدا بالأميركيين إلى مراجعة فكرة فرض الديمقراطية والرأسمالية في سوريا وبورما والعراق. كما أنه ليس أكيدا أن تكون الحكومة في العراق مساندة لأميركا أو أن تسمح ببقاء القوات الأميركية فوق أراضيها بشكل دائم. ولعل الاستثناء هو أفغانستان التي تبدو فيها الحكومة مستعدة لقبول تواجد قواعد أميركية فوق ترابها خشية معاودة اندلاع الصراع أمام التهديدات التي يمثلها أمراء الحرب.
وبالرغم مما قيل عن الإمبريالية الجيدة، فإنه مازال هناك من يؤمن بالتدخل العسكري المباشر كالخبير "جيري هوبفور" من المعهد الدولي للاقتصاد في واشنطن الذي يتساءل عن مدى قدرة الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة على جلب الاستقرار إلى بعض الدول الفقيرة كالكونجو وأنجولا وغيرها عبر تولي الأمور فيها فقط دون تدخل فعلي. ويضيف "هوبفور" أن مثل هذه الدول لن تحتاج إلى تدخل عسكري قوي لعدم تواجد مقاومة شرسة كتلك الموجودة في العراق حاليا. وهو يرى أنه في حالة إحلال السلام في هذه الدول، فإنها ستتمكن من توظيف مواردها المعدنية الغنية لتحقيق التقدم الاقتصادي مبررا بذلك نظرية التدخل العسكري.
وبالرغم من تدخل إدارتي كلينتون وبوش في معمعة هايتي، التي تعد أفقر دولة في الأميركتين، فإن المتابعة غير الكافية أفشلت أهداف هذا التدخل. لذا يرى هوبفور "أن الغرب عاجز عن تقديم المساعدة حتى لتلك الدول التي يمكن أن تحدث فيها هذه المساعدة تغيرا إيجابيا في أوضاعها". أما ما حصل في البوسنة فيعد استثناء لا يثبت القاعدة، حيث حافظت القوى الغربية على ممثلين لها بعد انتهاء الحرب، وهي الآن تمارس من خلالهم نفوذا قويا، هذا إن لم تكن تسيطر فعليا على الحكومة.
ويشير اقتصاديون آخرون إلى بعض الاقتراحات التي من شأنها أن تحفز الديمقراطية والنمو الاقتصادي دون اللجوء للإمبريالية اللطيفة. من تلك الاقتراحات تفادي عدم المساواة الفاحش في توزيع الدخل. فقد لاحظ، البروفيسور "إنجرمان" و"كينيث سوكولوف" من جامعة كاليفورنيا, أنه في تلك المستعمرات الأوروبية التي تتسع فيها الهوة بين الفقراء والأغنياء لا تميل حكومات