المشهد السياسي العربي تحكمه وتهيمن عليه التناقضات, وعندما تحكم التناقضات حياة الفرد فإنه لايفسّرها إلا أمران: أن يكون هذا الفرد انتهازياً لا تحكمه الأخلاق أو أن يكون مصاباً بمرض الانفصام حيث لا علاقة قط بين الواقع وبين تصرفات هذا الفرد.
في أيامنا هذه يتحكم تناقض مثير للشفقة في تصرفات أكثرية الأنظمة السياسية تجاه الداخل بالمقارنة إلى تصرفاتها تجاه الخارج, ولنعط مثالين على ذلك.
أولاً: حضرت مؤتمراً كانت إحدى جلساته تدور حول قضايا المرأة العربية من منظور المبادئ العولمية التي تهب على منطقتنا في هذه الأيام. كانت أولى المتحدثات امرأة سياسية من عبر البحار تحدثت وكأنها تلقي خطاباً في إحدى المدن الريفية في الجنوب الأميركي يتعلق بحقوق السود في الولايات المتحدة الأميركية. كان خطاباً لا يمت بصلة إلى تاريخ الحركة النسائية في الوطن العربي ولا إلى الواقع الاجتماعي - الثقافي المعقد الذي يحكم مجتمعاتنا، ولا كان خطاباً يعرف شيئاً عن القوى الهائلة التي ناضلت ولا تزال تناضل من أجل حقوق المرأة العربية. كانت المتحدثة تتكلم بعنجهية الاعتقاد بأننا مجتمعات تحتاج إلى متمدن يرينا الطريق، وأن طريق الصراط المستقيم هو صوت مارتن لوثر كينج الكنسي وهو يصرخ في مستمعيه:"سننتصر".
في مقابل ذلك تحدثت امرأة جليلة عربية أستاذة جامعية فألقت خطاباً غاية في الرزانة والعمق والتحليل التاريخي الدقيق والفهم المتوازن لواقع المجتمعات العربية. كان خطاباً قادراً على طرح ألف سؤال وقادراً أيضاً على أن يحاول بجد تقديم ألف جواب.
بالنسبة للمتحدثة الأولى سلطت المؤسسة الإعلامية الرسمية كل الأضواء عليها واختارها موظفون رسميون للاجتماع بكبار المسؤولين بينما بقيت الثانية في الظل بعيداً عن الأضواء والاهتمام الرسمي. حادثة صغيرة تدلّ على شيء مرعب كبير. فالمتحدثة الأولى لا توجه الدعوة لها لأن لديها شيئاً مفيداً تقوله بل لأن لها مكانة سياسية في بلادها يمكن أن تساهم في تلميع صورة المسؤولين في ذلك البلد العربي الذي استضافها وفي حصول ذلك النظام السياسي على مباركة عاصمة غربية كبرى. من هنا الدعوة، من هنا تسليط الأضواء، ومن هنا الانتقاء للاجتماع بكبار المسؤولين لأخذ الصور ولتأكيد العلاقة الحميمة التي تربط المسؤولين في ذلك البلد بحكومة تلك السيدة. إن قسماً كبيراً من دعوات شخصيات الخارج تصب في هذه الأيام في تلك الخانة: خانة استرضاء أو استعمال ذوي النفوذ في عواصم الغرب الكبرى, هذا بينما تتعامل الماكينة الرسمية مع العقول العربية المثقفة الرزينة ضمن واجب دبلوماسية اللياقة والأدب، من بعيد وعلى استحياء شديد.
ثانيا: يقابل تلك الصورة مشهد داخلي آخر مناقض لصورة التفاهم والأخذ والعطاء مع الخارج. ففي مدن إحدى الدول العربية يخرج المتظاهرون بهدوء وبصورة سلمية للاحتجاج على حكم طال أمده فيقبض على المئات منهم. وفي إحدى الدول الأخرى يوجه المواطنون كتاباً مفتوحاً للتعبير عن أحد مطالبهم فيحتجز الكثيرون منهم. وفي عواصم الوطن العربي تقام المؤتمرات السياسية والفكرية، بحضور مكثف من ساسة ومفكرين وقادة مجتمع مدني، فلا يسمع أحد عنهم ولا يعرف أحد عن مقرراتهم ومطالبهم، ولا يرى أحد صوراً لهم مع هذا المسؤول العربي أو ذاك القائد الرئيس. وتتكرر صور الإهمال والازدراء للداخل وتتلون بألف لون.
هذا التناقض بين التعامل مع الداخل والخارج من قبل الأنظمة الرسمية وصل إلى مستوى التهديد بكارثة محققة لمجمل الحياة السياسية العربية. إننا نعود إلى العصور العباسية المتأخرة التي تعاملت مع العساكر الأجانب بالترحاب والاحتضان ومع رعاياها بالبطش والاحتقار فهيَّأت للسقوط المفجع لعاصمة الإسلام بغداد أمام جحافل البربرية المغولية. إن الأصولية المسيحية الصهيونية البربرية تطرق أبواب كل عواصم العروبة والإسلام فهل نعي أننا، بقصد أو بدون قصد، نهيّئ لزحف بربري مماثل سيطال مجمل حياتنا السياسية والثقافية والعقيدية؟.