منذ أكثر من عشر سنوات كتبت: يبرز خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى. هذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي ويهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية ويدعو بصورة خطابية للنضال ضدها وبغير أن يعرف القوانين التي تحكمها. وهو يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيراً ينزع - في بعض صوره البارزة - إلى اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها... أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلاني، يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي، وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر والمجتمع والعالم. وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة، يأخذ منها بلا عقد، ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار، والثقة بالنفس، ولا يخضع لإغراء نظرية المؤامرة التاريخية الكبرى، كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة، بالإضافة إلى أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة... ولا يدعو إلى استخدام القوة والعنف, ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري.
منذ ذلك التاريخ جرت تحت الجسر مياه كثيرة! استفحلت ظاهرة الإرهاب، وما لبث الإرهاب أن قفز في المجهول قفزة كبرى حين انطلق ليهاجم مراكز القوة في النظام الأميركي (11 سبتمبر 2001).
ومن ناحية أخرى انتشرت في نطاق مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ظاهرة تفجير المقاومين لأنفسهم، فيما أطلق عليها العمليات الانتحارية في قول، والعمليات الاستشهادية في قول آخر. وما لبث هذا الأسلوب أن انتقل من نطاق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى ميادين أخرى ليس فيها أعداء إسرائيليون، وإنما مواطنون عاديون، مثلما حدث في حي الأزهر في مصر. وهكذا نجد أنفسنا اليوم في مجال العلم الاجتماعي المهتم بالعنف والإرهاب لتحديد الأسباب وبيان استراتيجيات المقاومة. لسنا أمام العقل التقليدي، ولكن أمام ما يمكن أن نطلق عليه العقل الإرهابي.
وبعد تأمل طويل في مسيرة الإرهاب الذي تمارسه على وجه الخصوص الجماعات المتأسلمة (أي التي ترفع زوراً وبهتاناً أعلام الإسلام) والتي يمكن لتنظيم "القاعدة" أن يكون نموذجها البارز، أدركت أن العقل التقليدي هو الذي يمهد الطريق لنشأة العقل الإرهابي الذي يدفع صاحبه للفعل. وذلك لأن العقل التقليدي يتسم أساساً بأنه ينطلق من رؤية مغلقة للعالم. وفي تقديرنا أن مفهوم رؤية العالم الذي أصبح من المفاهيم الرئيسية في التحليل الثقافي، هو مفتاح فهم أسباب الإرهاب الحقيقية. ليس كل مواطن عربي يخضع للقهر السياسي يمكن أن يتحول - هكذا ببساطة - إلى إرهابي!
هناك جماعات تتولى غسيل مخ الشباب ومدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم. وربما كانت نظرية "الحاكمية" التي تذهب إلى أن الحاكمية لله وليست للبشر، بالإضافة إلى تكفير المجتمع العربي والإسلامي، ونعت المواطنين بأنهم منحرفون عن مقاصد الدين الحقيقية، بالإضافة إلى الكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم كفاراً وملحدين، هي الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة، التي تشكل العقل الإرهابي. هل فكرة العقل الإرهابي متداولة في إطار العلم الاجتماعي المهتم بدراسات العنف والإرهاب أم لا؟
مفهوم "العقل الإرهابي" يستخدم بكثرة في الكتابات العلمية التي تحاول تأصيل أسباب الإرهاب. لقد فوجئت بمقالين أحدهما للفيلسوف الفرنسي الشهير "بوديار" وهو من رواد حركة ما بعد الحداثة، عنوانها "عقل الإرهاب"، والأخرى للكاتب الفرنسي المعروف" آلان مينك" وعنوانها "إرهاب العقل". ساعتها أدركت أنني باستخدام مفهوم "العقل الإرهابي" للدلالة على عقل خاص له سمات فارقة تميزه حتى عن العقل التقليدي والعقل العصري اللذين ألمحنا من قبل إلى سماتهما الرئيسية، لست بعيداً عن لغة العلم الاجتماعي المعاصر.
وإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي, فإن هذا العقل التقليدي لا تفهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلى أصل واحد هو الأصولية. ونحن لا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة، ولكننا نستخدمها بمفهوم الجمود العقائدي والتزمت الفكري. وقد أبرز الكاتب المغربي المعروف علي أومليل في بحث له بعنوان "حوار الثقافات: العوائق والآفاق"، هذه المعاني السلبية للأصولية.
فقد استطاع أومليل ببراعة ومن خلال تتبعه التاريخي للمواجهة التي تمت بين العالم العربي والعالم الأوروبي في بداية النهضة العربية الأولى، أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن وراء تفوق العسكرية الأوروبية تفوقاً في تنظيم الاقتصاد والمجتمع والدولة، وأيضاً تفوقاً علمياً وتكنولوجيا. وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيما ومبادئ كالتربية على الحرية والمساواة، وحق الشعب في اختيار حكامه، وحرية التعبير والصحافة، وسيادة القانون والمساواة أمامه. غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي هناك أيضاً الغرب الاستعماري المزدوج المعايير. فهو يضمن الحرية لمواطنيه