في 15 أبريل 2005 احتفلت فرنسا بمولد الفيلسوف الوجودي "جان بول سارتر" وأعيد رماده من المحرقة.. ولكن من هو سارتر؟
عاش سارتر 75 سنة ووصف بأنه كان من أكثر فلاسفة القرن العشرين غزارة في الإنتاج، وكان يكتب كل يوم 6 ساعات، وكتب حتى عمي، وناضل حتى مات، ولم ينشر كل ما كتب، ومما نشر كان كتابه "الوجودية تعني الإنسانية" في أكتوبر 1945 فأحدث صدى هائلاً، ومما كتب 700 صفحة في الوجود والعدم، و2000 صفحة بروايات شتى، وكتب 1300 صفحة في نقد العقل الجدلي، وكتب 3000 صفحة في دراسة فلوبير عن "أحمق العائلة"، وبين عامي 1943 و1953 كتب 4 تحليلات فلسفية، وثلاث روايات، وتحليلا أدبيا مطولا و6 قطع مسرحية، عرضت بالإضافة إلى إخراج فيلمين، وتأسيس المجلة المشهورة (مجلة العصور الحديثة) الشهرية، فهو كما يقولون ينتسب إلى الفلاسفة العمالقة، أو بتعبير "برنارد هنري ليفي" ديناصورات الفلسفة.
كان سارتر مزيجاً عجيبا للناس يتأملونه بين الإعجاب والدهشة والرعب والكراهية، وكان مكروها ممقوتا موصوفا بالإلحاد، وكان الناس يتحاشونه حين يدخل مقهاه المفضل والدائم (الفلور) في سانت جيرمان في باريس، وتعرض لعمليتين إرهابيتين من إلقاء القنابل عليه ولكنه نجا.
كان الرجل عبقريا وشاهداً لعصره، ويحمل كل عيوب وتناقضات عصره بما فيها رائحة الإلحاد، ولكن الوجودية لا تعني الإلحاد، فالفيلسوف الوجودي كيركيجارد كان عميق الإيمان يقوم بحركة في الإصلاح الديني، وبقي سارتر الثائر (الأبدي) لحرية الأفراد والشعوب، ومشت كتبه في كل أسواق العالم، واحتفلت به أميركا، وأصبحت إيطاليا بلده الثاني، ورأى فيه الكثير من شعوب العالم الثالث الناطق باسم المستضعفين.
وعندما مات الرجل عام 1980 كان شيخاً واهناً منهكاً، بعيون منطفئة، وفم بدون أضراس، غير قادر على الكتابة والقراءة، يسبح في شفق المغيب العقلي، وأحيانا يرجع إلى الوعي فيأمل أن ينهض من الرماد كما في قصة طائر الفينيكس، ومن أجمل ما فعل التدخل عند الرئيس الفرنسي "فاليري جيسكار ديستان" في منح اللجوء السياسي لفيتناميي القوارب، أو بتعبيره (آوسشفيتز على ظهر الماء) فبرهن على أن الفلسفة هي "أن تعيش المعاناة مع الناس وليس انتظار نهاية التاريخ على شكل جنة فلسفية".
كان سارتر "ظاهرة Phenomen فلم ينافسه في المقعد الأول فيلسوف أو كاتب أو روائي، وكانت كلماته أسلحة فتاكة، ولم يكن يردعه أن يهان أو يتعرض للأذى، وسار في جنازته خمسون ألفا أو يزيدون، ودفن في مقبرة العظماء في (مون بارناس). ثم بدا من بعد ذلك وكأنه نسي وضاع في ملفات الإهمال، ولكن الأمم العظيمة لا تفرط في رجال الفكر ولو أثاروا أعظم زوابع الجدل، فهذه هي الحياة.
ومع موته ودع عالم الفلسفة الوجودية لتبدأ رحلة الفلسفة البنيوية (Structureliasm) ولأن عقل الرجل كان نقديا ولم يكن نقليا فقد سافر في كل المعمورة، ورأى الإنجاز الشيوعي، وتحمس له في البدء ودعا إلى تقليده، مما قاد إلى كارثة. واجتمع برئيس عصابة البادر ماينهوف، وكتب في الدفاع عن زعماء حمر هم من طبقة المجرمين اليوم مثل بول بوت وستالين، ولكن بعد ربيع براغ كانت قاصمة الظهر فودع الشيوعية إلى غير رجعة.
كان سارتر نموذجاً للشيزوفرينيا أو التناقض بين العبقرية والجنون، وكان الرجل قطباً مغناطيسياً امتص كل نقائص وعيوب عصره وعاش في حربين عالميتين، وشاهد خداع الشيوعية، ولم تكن تناقضاته ببساطة مراحل مختلفة من حياته، بل كانت تدفقا مزدوجا معيبا، وهذا (الانشقاق) في شخصيته جعل منه الشخص المرغوب المرفوض.
إن أبطال الفكر يرون رسالتهم كحكماء في المجتمع يواجهون الأقوياء باسم المستضعفين ليقولوا في وجوههم الحقيقية، ويكافحوا خونة المجتمع فيقولوا لهم في أنفسهم قولا بليغا، أما المثقفون الفرنسيون كما يقول (بورديو) فهم يمشون على غير هدى ويعانون من أزمة مستحكمة. ويمارسون العمل الأكاديمي في دوائر حكومية في أرض قفراء من الإبداع. أما خليفة سارتر من (ديناصورات) الفلاسفة من حجم سبينوزا وكانط فلا أثر لهم في الأفق.