كنت قد كتبت في الأسبوع الماضي عن موضوع الفساد الإداري، وقلت إن هناك توجهاً جاداً نحو معالجة هذه القضية في وزارة العمل وإن هذا التوجه يحتاج إلى مساندة ودعم من الجميع حتى يصبح نموذجاً يحتذى به في باقي مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة.
وإذا كنا جادين فعلياً في السير نحو محاربة الفساد الإداري، وأعني بذلك سوء استعمال الوظيفة العامة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، فإنه يجب علينا وضع استراتيجية إدارية واقتصادية وتنموية وقانونية واضحة المعالم بخصوص هذا الموضوع، وإنشاء هيئة مستقلة تختص بمكافحة الفساد الإداري وتطهير مواقع تمركزه والعمل بصورة جادة على الفصل بين الوظيفة وممارسة العمل التجاري، لأن تجربة الفساد الإداري أثبتت وبقوة أن اختلاط هذين الأمرين مع بعضهما بعضا هو الذي يفتح المجال لدخول الفساد الإداري في العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة. قد يقول البعض إن هناك أسبابا أخرى عديدة للفساد؟ لذلك فإن مهمة تفعيل المادة 64 من القانون الاتحادي رقم (8) لسنة 1973 في شأن الخدمة المدنية والتي تمنع صاحب الوظيفة أو المنصب من ممارسة أي عمل تجاري أو مهني أو مالي أثناء وظيفته أمر مهم، ويجب تفعيله على أعلى مستوى وفي كل المؤسسات، ويجب تقويته بقرارات أخرى حتى لا يكون عرضة للتجميد أو لاستغلاله بطريقة خاطئة، أو تفسيره تفسيرات ملتوية أو مغلوطة.
إن النقطة المهمة التي أريد أن أتحدث عنها هنا هي ما جاء في حديث وزير الصحة حمد عبدالرحمن المدفع مع إذاعة أبوظبي، وهذه النقطة تتركز حول رده على السؤال الخاص بموضوع امتلاك بعض وكلاء الوزارة ومديري المناطق الطبية وبعض الإداريين العاملين في وزارة الصحة رخصاً تجارية تتعلق بالأدوية والخدمات الصحية. قال الوزير: نحن كوزارة صحة قمنا بمنح بعض الموظفين رخصاً لعيادات أو مراكز أو صيدليات، المهم ألا يستغل الطبيب وضعه بحيث يجتذب المرضى إلى عيادته الخاصة. وهذا القول في الحقيقة يتنافى كلياً مع ما جاء في المادة 64 من قانون الخدمة المدنية، وما جاء في قرار مجلس الوزراء في جلسة رقم 35 المعقودة بتاريخ 10/10/1977 والتي أكد فيها على ضرورة التزام موظف الحكومة بعدم الاشتغال بالأعمال التجارية أو المهن الحرة أو العمل بدل الغير طبقاً لما تنص عليه الأحكام الواردة في قانون الخدمة المدنية. وهذا يحدث أيضاً في التربية بخصوص المدرس الحكومي عندما يعطي دروساً خصوصية، والمسؤول التربوي عندما يمتلك مدرسة خاصة أو معهداً خاصاً. وهناك أمثلة كثيرة على المستوى نفسه في مؤسسات عديدة، لذلك فإن القانون كان واضحاً في هذه النقطة عندما وضع لها حداً فاصلاً حتى لا تكون مدخلاً لهذا الفساد.
إن مواجهة الفساد الإداري أصبحت اليوم قضية مهمة ليس فقط على المستوى المحلي أو الإقليمي بل على المستوى العالمي، وذلك لخطورة الآثار السلبية التي يتركها الفساد الإداري على المجتمع والدولة في إضعاف النمو الاقتصادي والبنية الأساسية والخدمات العامة وجودة العمل وخطط الاستثمار برصيد الإنفاق الحكومي ورصيد الأجيال الحاضرة والقادمة، والأخطر أنه يعمل على إضعاف شرعية القانون والدولة ويؤدي إلى تشوهات خطيرة في طريقة عمل المجتمع والدولة. وباختصار أن منظومة الفساد الإداري تكلف العالم أكثر من تريليون دولار (1000 مليار دولار).
ويكفي هنا أن أستشهد بنقطتين:
الأولى: ما قاله د· رفعت لقوشة أستاذ الاقتصاد بجامعة الأسكندرية: إن منظومة الفساد المؤسسي كلفت الاقتصاد المصري خلال السنوات العشر الماضية حوالى 31 مليار دولار، وهو رقم بحجم المعونات الأميركية لمصر خلال هذه السنوات، وإن الاقتصاد المصري إذا لم يتصدَّى لهذا الفساد فقد يكون معرضاً في المستقبل القريب لعقوبات دولية.
الثانية: ما قاله رئيس وزراء سنغافورة "لي كوان يو" حول نجاح سنغافورة في حربها ضد الفساد، أنها ركزت في استراتيجيتها على وضع قانون خاص بمكافحة الفساد وإنشاء مكتب للتحقيق في ممارسة الفساد، وعلى وعي الجمهور في الإبلاغ عن جميع أشكال الفساد المشتبه فيها من خلال صناديق منتشرة في شوارع سنغافورة وبوسائل سهلة وزيادة رواتب الموظفين وتحسين ظروف أدائهم في الخدمة.