لقد سبق لي أن رأيت هذه اللعبة من قبل. فهي عادة ما تبدأ بداية شبيهة بذلك الموسم، الذي تظهر فيه الفتيات لأول مرة في ليالي فندق "بالم بيتش" لتنتهي كالعادة، حول طاولة من طاولات لعبة البوكر في ملهى "بنيونس" بمدينة لاس فيجاس! ما أعنيه هنا أن لكل وزير من وزراء الخارجية الأميركية، لحظته الخاصة التي يصعد فيها إلى المسرح العالمي. وهي اللحظة التي تلهث فيها الأنفاس، وتتطلع فيها العيون متسائلة عن مدى ذكاء الوزير الجديد، وأي فريق "خرافي" من خيرة وأذكياء الدبلوماسيين، استطاع أن يحشد حوله؟. وبصفتها أول وزيرة خارجية تقف على كعب عال وهي تتفقد الجنود والمقاتلين الأميركيين، فقد كانت تلك لحظة ظهورها الأولى، بلا منازع! ولكن ما من واحد من وزراء الخارجية الحكماء السابقين، ليأخذ بهذه المناظر الشكلية الخداعة مأخذ الجد. ذلك أنهم يدركون أنه لابد لكل وزير من وزراء الدبلوماسية الأميركية، من يد تحمل أوراق البوكر، دون أن يدري حتى ما تخبئه له تلك الأوراق من مفاجآت. ولنذكر من هذه المفاجآت: اندلاع الحرب الشرق أوسطية في عام 1973 في ظل وزارة هنري كيسنجر، وصعود نجم الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشيف في أيام وزارة جورج شولتز، وسقوط حائط برلين في عهد وزارة جيمس بيكر، واندلاع حرب كوسوفو في أيام وزارة مادلين أولبرايت، وأخيراً الحرب على العراق في ظل وزارة كولن باول. والمعلوم أن يد البوكر هذه، تحمل سبع أوراق، تملكها جميعاً ولاية تكساس. ويتحدد مصير كل وزير من وزراء الخارجية وتركته الدبلوماسية في تاريخ البلاد، بمدى قدرته على تحمل نتائج هذه اليد المخاطرة.
بالنسبة لكوندوليزا رايس، فربما لا تزال بانتظارها الكثير من المفاجآت والكروت المغامرة. ولكن هناك في الوقت الحالي، ورقة واحدة أمامها على الطاولة مباشرة. ألا وهي ورقة عملية التحول الديمقراطي الرباعية الأضلاع الجارية الآن في منطقة الشرق الأوسط: العراق، لبنان، مصر، ثم فلسطين وإسرائيل. ومما لا شك فيه أن مصير وتركة رايس الدبلوماسية، سيتحددان بما تثمر عنه كل من التجارب الأربع. فالذي انشغلت به إدارة بوش خلال الشهر الماضي أو نحوه، هو استعراض نتائج تجارب الانتصارات التي تحققت مؤخراً، باشتعال شرارة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط. وعلى رغم خلافي مع الكثير من سياسات الرئيس بوش، إلا أن إدارته تستحق الثناء على ذلك الحجر الذي ألقت به في تلك البركة السياسية الآسنة، فحركت مياهها على نحو لا يمكن التقليل من أهميته بأي حال من الأحوال.
وبفعل ذلك الحجر، فقد توفر الكثير من العناصر اللازمة لعملية التحول الديمقراطي في المنطقة: فهناك الانتخابات النزيهة الحرة في العراق. وهناك الانسحاب السوري من لبنان. أما في مصر فقد أعلن الرئيس المصري حسني مبارك، تعهده بنظام الانتخابات متعددة المرشحين الرئاسيين، خلافاً لنظام المرشح الوحيد، الذي كان معمولاً به في السابق. إلى ذلك، فقد تعهدت إسرائيل من جانبها بتنفيذ خطة الانسحاب من قطاع غزة، بينما أجرى الفلسطينيون انتخابات حرة نزيهة من جانبهم. وعلى الرغم من توفر هذه العناصر الضرورية، إلا أنه لم تتوفر بعد، في أي من هذه البلدان الأربعة، الشروط الكافية لعملية التحول الديمقراطي.
ففي العراق مثلاً، كانت الانتخابات العامة قد جرت في الثلاثين من شهر يناير الماضي. إلا أن الأكراد والشيعة والسنة لم يتفقوا بعد، على تشكيل حكومة وحدة وطنية فيما بينهم، في حين لا تزال شوكة التمرد تحافظ على قوتها وسلبية تأثيرها. أما في لبنان، فقد سقطت "ثورة الأرز" في مستنقع من المواجهات والنزاعات بين المعسكر المؤيد لسوريا والمعارض لها بين المواطنين اللبنانيين. وحين يأتي الدور على مصر، فإنه لا يزال مجهولاً ما إذا كانت الانتخابات الرئاسية المقبلة، ستكون حرة ونزيهة بالفعل، وما إذا كانت ستجري في ظل وجود مراقبين دوليين؟ وبالمثل فإن المستوطنات الجديدة التي ينهمك ببنائها رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون، تجعل من الصعب جداً التكهن بما إذا كانت الساحة الإسرائيلية- الفلسطينية، ستشهد أي تطور سياسي ذي معنى، على طريق الحل السلمي للنزاع.
والفكرة المشتركة في الساحات الأربع المذكورة أعلاه جميعها، أن الأطراف الرئيسية في اللعبة قد مضت في اتخاذ الخطوات الصحيحة والصائبة، من أجل الأهداف والغايات الخاطئة. ففيها جميعاً، تأتي عملية التحول الديمقراطي في المرتبة الثانية. في العراق مثلاً، يتطلع كل من الأكراد والشيعة إلى إحكام قبضتهم حول السلطة أولاً على المستوى الداخلي. أما في لبنان، فتتطلع المعارضة إلى التخلص من الوجود السوري في المقام الأول، في حين يسعى المصريون إلى التخلص من عبء الضغوط الأميركية التي تثقل كاهلهم قبل كل شيء. إلى ذلك تعطي إسرائيل أولويتها للتخلص من عبء الكثافة السكانية العالية في قطاع غزة.
لكن وخلافاً لما تشهده منطقة الشرق الأوسط حالياً، فقد أثبتت شواهد التاريخ، أن الإنجازات الكبيرة في حياة الشعوب، لا تتحقق إلا حين يفعل الشيء الصح