من بين كل اثني عشر مواطناً من مواطني دولة الإمارات، يحمل واحد منهم جينات مرض الثلاسيميا. فالإحصائيات تشير إلى انتشار للمرض بين المواطنين والمواطنات بنسبة تبلغ ثمانية ونصف في المئة، وبين جميع سكان الخليج العربي بنسبة تبلغ 5 في المئة، أو واحدا من بين كل عشرين مواطناً خليجياً. وقبل أن نستطرد إلى تفاصيل هذا المرض، وتأثيراته السلبية على صحة المصابين به، وطرق وأساليب العلاج، يجب أن نسترجع بدايةً بعض الحقائق الأساسية عن الدم ومكوناته. فالدم في الحقيقة هو نسيج، مثله مثل نسيج العضلات والعظام والدهون، ولكنه يختلف عنها جميعا في كونه في حالة حركة ودوران مستمرين، من خلال ضخ القلب له عبر الشرايين والأوردة. ويتكون الدم في تركيبته الأساسية من سائل (البلازما)، والذي تسبح فيه مجموعة من الخلايا الخاصة، مثل كرات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية. ويعتبر النقل من وإلى، هي الوظيفة الأساسية للدم. مثل نقل الأوكسجين والمواد الغذائية للخلايا، وتخليصها من ثاني أكسيد الكربون ومخلفات العمليات الحيوية. وتختص كرات الدم الحمراء بنقل الأوكسجين من الرئتين إلى الخلايا، ونقل ثاني أكسيد الكربون من الخلايا إلى الرئتين للخلاص منه. هذه الوظيفة تقوم كرات الدم الحمراء بتأديتها من خلال مركب كيميائي خاص، يعرف بالهيموجلوبين أو خضاب الدم. وما يحدث في الثلاسيميا، هو نوع من الاختلال في الجينات المسؤولة عن إنتاج هذا المركب، مما يؤدي إلى تكوين هيموجلوبين معيب. ولذا يمكننا تعريف الثلاسيميا على أنها مرض وراثي، يؤدي إلى تكسر كرات الدم الحمراء، ويعيقها عن تأدية وظيفتها المتمثلة في إمداد الخلايا بالأوكسجين وتخليصها من ثاني أكسيد الكربون.
هذا عن تعريف الثلاسيميا وما يحدث فيها من اختلال، ولكن كيف تنتقل من الآباء والأمهات إلى ذريتهم، دون أن يكونوا هم مصابين بالمرض من الأساس؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب استرجاع بعض المبادئ الأساسية للوراثة وللأمراض الوراثية. بداية نذكر أن الكثير من الصفات الوراثية تنتج من فعل اثنين من الجينات، سنطلق عليهما هنا للتبسيط الموجب والسالب. ولذا توجد أربعة احتمالات لاجتماع الجينات، موجب وموجب، موجب وسالب، وسالب وموجب، وسالب وسالب. ويتميز جين الثلاسيميا بأنه جين متنحٍّ، أي لا تظهر آثاره إلا في حالة انعدام وجود الجين السليم. ولذا إذا ما وصفنا الجين المعيب والمتنحي هنا بأنه السالب، والجين السليم السائد بأنه الموجب، لا تظهر أعراض الثلاسيميا إلا في الأشخاص الحاملين لجينات سالب- سالب. بينما يطلق لقب (حامل المرض) على من يحمل جينات سالب- موجب أو موجب- سالب. ويعتبر الشخص الحامل لجينات موجب-موجب شخصا سليما، أي ليس بمريض ولا بحامل للمرض. ولذا لا يمكن إنجاب ولد أو بنت مصابين بالمرض إلا من زواج شخصين يحملان جينا سالبا واحدا على الأقل، كما في حالة زواج حامل للمرض بشخص آخر حامل للمرض، أو زواج شخص حامل للمرض بمريض يحمل جينين سالبين. ويمكننا باستخدام التبادل والتوافق، الوصول إلى احتمالات إصابة الذرية بالمرض، أو إنتاج أطفال حاملين للمرض. فمثلا في حالة زواج شخصين حاملين للمرض، تبلغ احتمالات ولادة طفل مريض نسبة 25% أو واحدا من كل أربعة أطفال. واحتمالات ولادة طفل سليم تبلغ 25% أيضا أو واحدا من كل أربعة، بينما تبلغ احتمالات ولادة أطفال حاملين للمرض 50% أو اثنين من كل أربعة. هذه الأرقام هي نسب احتمالات ليس إلا، ولا تعني أن كل زوجين حاملين للمرض سيولد لهما طفل مريض وطفل سليم وطفلان حاملان للمرض. فمن الممكن أن يكون جميع أطفال زوجين حاملين للمرض مصابين بالثلاسيميا، أو أن يكون جميع أطفالهم أصحاء ودون حتى أن يكونوا حاملين للمرض.
هذا عن الخلفية الوراثية للمرض، ولكن ماذا عن انتشاره بين شعوب دون غيرها، وعن وجوده في مناطق محددة من العالم دون غيرها أيضا؟ إجابة هذا السؤال تجمع بين نظرية الانتقاء البشري وبين مرض الملاريا. فالثلاسيميا تنتشر بشكل واسع في مناطق جنوب البحر المتوسط بشكل كبير، مثل قبرص واليونان ومالطا وجنوب إيطاليا ودول الشرق الأوسط المطلة على البحر، لذا تعرف الثلاسيميا أحيانا بأنيميا البحر المتوسط. وتنتشر الثلاسيميا أيضا بين سكان شمال أفريقيا، ومنطقة الخليج، ودول جنوب شرق آسيا، مثل تايلاند والفلبين وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا. كل هذه المناطق الجغرافية المتباعدة يجمعها شيء واحد، هو أنها تاريخيا كانت دائما موطئا لأوبئة الملاريا. وبما أن الثلاسيميا تمنح المصابين بها نوعا من الوقاية ضد طفيلي الملاريا، استنتج العلماء أن أوبئة الملاريا عبر التاريخ كانت تقتل الأشخاص الأصحاء، بينما كان ينجو منها الحاملون لجينات الثلاسيميا. ولذا بعد عشرات من القرون من هذا الانتقاء الطبيعي أو بالأحرى المرضي، زادت نسبة الحاملين لجينات الثلاسيميا بين أفراد وشعوب تلك المناطق، مقارنة مع غير الحاملين للجينات والذين كانت تقتلهم الملاريا. مثل هذا السيناريو حدث بشكل متطابق تماما مع مرض وراثي آخر