كان ذلك النهار من أيام أبريل عام 1985 نهاراً شديد الحرارة، وكانت الخرطوم تكاد تختنق ليس من سخونة المناخ شديد الحرارة وحدها، ولكن أيضاً من حرارة المناخ السياسي الذي ظلت درجة حرارته في ارتفاع وتوتر شديدين منذ أشهر وبلغ قمته مع بداية شهر أبريل. وفي اليوم الثالث منه انفجر البركان الذي كان يغلي في الصدور ليعلن أن السودانيين قد بلغوا المدى وأن السبل بينهم وبين "ثورة مايو" قد تقطعت بلا عودة. ولم تكن تظاهرة طلاب معهد الكليات التكنولوجية التي خرجت من مباني المعهد عازمة على الوصول إلى قلب الخرطوم سوى الشرارة التي أشعلت الفتيل الجاهز والمعد للانفجار. وهكذا وبعد ساعات قليلة أشهر السودانيون سلاحهم المجرب من قبل وبنجاح فريد. سلاح الإضراب السياسي والعصيان المدني، الذي به أسقطوا ديكتاتورية نوفمبر العسكرية في أكتوبر عام 1964. وهكذا أيضاً تحققت "المعجزة الثانية" في تاريخ السودان الحديث وفي مسيرة السودانيين الشاقة من أجل الديمقراطية والعدل والكرامة الإنسانية، ودخلت انتفاضة الخامس من أبريل - التي يحتفل السودانيون بذكراها العشرين بعد أيام- كتاب التاريخ السوداني.
استهلك الإعداد للإضراب السياسي والعصيان المدني سنوات من عمر السودان ومن حياة مناضلين عملوا بدأب وصبر للإعداد للانتفاضة المدنية لتنبع من وسط الجماهير، وتحقق بفعلها وبإرادتها في وقت كان الشك في جدوى الإضراب السياسي -الشعار الذي ابتدعته وأجادته الحركة النقابية والمهنية السودانية- يساور كثيراً من القادة السياسيين آنذاك. لكن الدرس الأول المستفاد من تجربة ثورة أكتوبر الظافرة علّم السودانيين أنه بوحدة صفوفهم من الممكن، أن يسقطوا نظاماً عسكرياً شمولياً كنظام مايو، وقد كان.
وعلى الصعيد الآخر فإن النظام المايوي وبعد ستة عشر عاماً من التجارب البائسة والفاشلة، كان قد بلغ به الإرهاق والتعب السياسي مداه. فبرغم آلة الأمن الجبارة التي بناها وشاركته في بنائها وأمدته بالخبراء والأجهزة الفنية المتقدمة أجهزة استخبارات دولية من بينها إسرائيل وإيران الشاه، وغيرهما كثيرين، فإن الفساد الذي استشرى في جسد النظام والحالة النفسية والعقلية التي تلبست قيادته والتي قادتها إلى عزلة رهيبة عن نبض الشعب وعدم قدرتها على إدراك سوء الحال الذي وصل إليه البلد، كل تلك العوامل قد فعلت فعلها في النظام وعرّته كنظام غير قابل للبقاء حتى في نظر الحلفاء والأصدقاء الذين أحاطوا به في الداخل والخارج.
وفي الخامس من أبريل كانت آخر قلاع النظام -قوات الشعب المسلحة- التي ظل النظام يتباهى بولائها المطلق له، كانت قد أدركت بجدية أنها ستجد نفسها في مواجهة مع شعبها، الذي يجب أن يكون ولاؤها له وحده. وكان إعلان انحياز الجيش إلى الانتفاضة، والهتافات التي ترددت في سماء الخرطوم وغيرها من مدن السودان معلنة أن "الجيش جيش الشعب"، هي المسمار الأخير الذي دُقّ في نعش نظام مايو. وفي منتصف عام 1985 تعاهدت القوى السياسية والشعبية على الدفاع عن الديمقراطية (ميثاق الدفاع عن الديمقراطية)، وتعاهدت على أن يكون انقلاب الخامس والعشرين من مايو آخر الانقلابات العسكرية في مسيرة السودان. لكن الرياح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن!.
في مناسبة الذكرى العشرين لانتفاضة أبريل الديمقراطية السلمية، قد يكون من المفيد للسودان وللسودانيين -حكاماً ومحكومين- أن يجعلوا من الاحتفال بالذكرى فرصة لمراجعة مسيرة العشرين عاماً الماضية، عساهم يجدون فيها درساً وعظة. والدرس الأول المستفاد أنه في حالة السودان ومهما طال الزمن ومهما تعقدت الأمور فإن الديمقراطية كمبدأ وقاعدة هي الراجحة عند غالبية السودانيين.