تقرُّ كل القوانين بحق الإنسان في التمتع بحياة آمنة مستقرة، وبحقه في التعبير والتواصل مع الآخر، وأن الناس سواسية لا فرق بينهم - كما شرع ذلك أهم قانون يُنظم الحياة- وهو القرآن الكريم، حيث تجاوز القرآن الكريم المقاربة الجغرافية لمواطن النبوة ومجتمعها إلى جميع الأمم الأخرى غير الناطقة بالعربية.
وجاءت القوانين الأرضية لتُقر بحق المواطن في الاستفادة من جميع الثروات والمشاريع التي توفرها الدولة -أية دولة- للمواطنين، دون استئثار فئة محددة من هؤلاء المواطنين بـ"الكعكة"، وبقاء فئات أخرى تنظر بحسرة لكيفية تطبيق المواطنة!.
ومع أن التاريخ حمل لنا العديد من القصص والمشاهدات حول استئثار مجموعة من أهل الحظوة، أو الصدفة "البيولوجية"... بملامح لا محدودة من خير الدولة، مثل: القروض بمئات الملايين، وتأجير عمارات ومنازل لا يسكنها أحد، وبيع ناقلات نفط، وشراء عقارات عملاقة في عواصم عالمية، وعقد صفقات - لشركات محددة- للاستثمار في النفط، وشراء أسهم باسم الدولة -أية دولة- هذا بالإضافة إلى عمولات صفقات الأسلحة التي تزيد عن مئات الملايين من الدولارات.
يحدث كل ذلك لأن نظرة النظام -أي نظام- للناس المقربين، أو الذين تربطه بهم علاقة بيولوجية ترتكز على الانطباعية التي تُقصي الآخر، وهذا ما "جيَّر" بعض القوانين المحلية لتحفظ الحقوق "المغتصبة" لأهل الحظوة، ورفض الحقوق "الشرعية" لأهل الإقصاء! ومن هنا انتشر اللاعدل واللاحُبّ بين النظام والمجموعات المقصّية! ناهيك عن التطورات التي تشكلت في أعمال عنف أو سرقات حدثت تحت جنح الظلام.
الانطباعية سلوك غير حضاري، ولا يمكن أن تُبنى الدول على الأمزجة المتقلبة التي تؤثر عليها "البطانة" والتي في الأغلب تهمها مصلحتها، وتسعى لتأليب التظاهر على أصحاب الرؤى التي تختلف معها طبقاً لاعتبارات "بيولوجية" أوجدتها الصدفة، أو لاعتبارات فكرية ثقافية، حيث ترى تلك البطانة في المثقفين المسكونين بهموم المواطنين خطراً عليها لو "قرّبتهم" من صاحب القرار!
الانطباعية قد تستند إلى النظرة الأولى، أو الحدث الأول، أو الموقف الأول، الذي قد يأتي ضمن إطار كبير يفسره، لكن البطانة تنتقي ما تستفيد منه، وما يمكن أن يشوه الحقيقة، ويجعل "نقمة" صاحب القرار حاضرة في بحث سيرِ رموز البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً.
من هنا انتشرت في معظم دول العالم العربي العائلات الإدارية، وصار الواحد "عنتر زمانه" حتى ظهرت مقولة: ما في البلد إلا ها لولد! كتعبير عن عدم الرضا عما يجري في البلدان التي تعتمد العائلات الإدارية، والتي لا تسمح للآخرين - مهما بلغ مستوى معرفتهم أو تخصصهم- بالاقتراب، لا من صاحب القرار ولا من المهنة التي يجب أن يضطلعوا بها.
الإشكالية في الانطباعية أنها "خاتم سلطاني" ما إن يُختم به وجه المواطن فلا يمكن لأحد أن يزيله، وهو شبيه بتوسيم الحيوانات لمعرفة أصحابها أو الحظائر التي تنتمي إليها. وهنالك حالات يمكن أن تُفسّر خطأ لصاحب القرار، وحالات أخرى يمكن إن فُهمت في سياق سلبي، لابد وأن تتوضح لصاحب القرار أو المسؤول في الإدارة، لكننا للأسف - في عالمنا العربي- نطبّق أمثالنا القديمة (أنا وأخي على ابن عمي... وأنا وابن عمي على الغريب). وهذا توجه متخلف لا يتناسب وحياة القرن الحادي والعشرين، أو الأطروحات الإصلاحية نحو التعددية والديمقراطية.
الانطباعية - في حالاتها الأغلب- يؤمن بها الأفراد الذين لا تحميهم ثقافتهم أو خبراتهم المهنية، بقدر ما يستندون إلى التاريخ أو الصدف البيولوجية. فكم من الضحايا الذين ذهبوا أو يمكن جُنُّوا - من جنون- جراء الأحكام الجائرة المبنية على السلوك الانطباعي؟ وكم من أموال الدولة سيطر عليها هؤلاء الانطباعيون -الذين نالوا الثقة وهم ليسوا أهلاً لها- وكم من الوقت تم تضييعه في "ترهات" لا يستفيد منها المواطن.
في بعض دول العالم العربي لا يجد المؤهل ثمن رغيف عياله، وفي البعض الآخر نجد منسّق الهاتف لمؤسسة إعلامية يحصل على راتب يتجاوز ثلاثين ألفا... في الوقت الذي لا يصل راتب المواطن صاحب خبرة 30 عاماً ويحمل مؤهلات عليا في تخصصه، نصف راتب ذلك الوافد، الذي رضي عليه صاحب القرار في المؤسسة استناداً لانطباعيته الخاطئة التي أقصت المواطن!
في بعض دول العالم العربي تُمارس عملية "توسيم" المواطنين - كما الحيوانات- فهذا معنا... ومتعاون معنا! وذاك غير متعاون! ولا يجوز تبرير أو توضيح ماهية، أو شكل التعاون أو غير التعاون!.
ويمكن أن يُجازى أحدهم بالإعدام الوظيفي طيلة حياته إذا تم "توسيمه" بأنه غير متعاون، دون أن يعلم، ودون أن توضع أمامه الحقائق -إن وجدت- كي يقنع نفسه بأن "التوسيم" واجب وحقيقي ويستحقه!.
وفي ظل تغييب الحقائق... وحظر الرأي... وكبت الحريات، نجد أن الانطباعية تستفحل، والأذى يزداد، ومساحات الظلم تنتشر وأيادي العبث تستشرس كي تصل إلى الدائرة الحرام.
كثيرون في العالم العربي يتحدثون عن الفساد الإداري، ونتائج الانطباعية،