ثمة بعض الكلمات التي لا تجد لها من يستخدمها إلا غلاة اللغويين، وعتاة النحاة والمتكلمين، أما رجل الشارع فعلمه بها كعلم المواطن الصيني بأسباب ارتفاع الطلاق في الخليج.
بعض هذه الكلمات يقيض الله لها من يبعثها من جديد وينفض عنها غبار المجلدات المهترئة وركام أعشاش العناكب من فوق رفوف المكتبات، فتصبح على كل لسان، ويتشدق بها كل فم.
في عام 1994 كنت ابن 21 ربيعاً، قذفني قدري المهني لتغطية الحرب اليمنية. كانت كلمة (الفساد) على كل لسان، وقد أربكتني الكلمة في البداية، فأنا ابن بيئة لا تستخدم هذه الكلمة في الغالب الأعم إلا للتعبير عن الفساد الأخلاقي. مع الوقت اكتشفت أن الموظف الذي ينجز لك معاملتك بشرط أن تعطيه "حق القات" كان يمثل صورة من صور الفساد، واتسعت مداركي لأتعرف على أن للفساد معنى اقتصادياً وإدارياً يعني الوحدة بين المال العام والخاص، أو التفريط في العمل على حساب المتعة أو الكيف أو المصالح الشخصية.
تنبه لذلك فنان الكاريكاتير المصري مصطفى حسين وعنون لأحد كاريكاتيراته بـ"إصلاح على كل لسان" ورسم سيدة مصرية توشك أقتابها أن تندلق سمنة، وقد ملأتها الدهشة وهي تمسك صحيفة في يدها اليمنى وتضعها إلى خصرها وقد مالت بنصفها العلوي إلى الأمام، حيث تخاطب فتاة صغيرة نحيلة، رثة الثياب، يبدو عليها أثر الفقر والعوز، مادياً وجسدياً، وقد ربطت شعرها المتناثر بخرقة، وتعمل في خدمة السيدة السمينة، وتدعى إصلاح، وتقول لها السيدة بالعامية المصرية الدارجة:"بت (بنت) يا إصلاح... إنتي يا مقصوفة الرقبة اشتغلتي بالسياسة قبل ما تيجي عندنا؟... وتعالي هنا قوليلي إيه اللي يخلّي واحد زي دابليو بوش بتاع أمريكا (الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش) يلسّن عليكي ليل نهار!؟". انتهى الكاريكاتير لفظاً، ولم يصمت حديثاً، ولا أظنه سيصمت.
لم نكن نعرف الإصلاح إلا عند الحديث عن تعطل أو عطب الأشياء. وفي صغري ارتبط الإصلاح عندي بدراجتي الهوائية، وكان الباكستاني خان الذي يعتمر عمامة أطول مني آنذاك أربع مرات، هو قائد الإصلاح وممثله الشرعي والوحيد في ذهنيتي الصغيرة، لأنه يصلح ما فسد من شأن دراجتي. ولا تزال عبارة (إصلاح) التي كتبت بخط الرقعة وتبعتها كلمة (دراجات) هي التي تقفز إلى ذهني كلما سمعت الحديث عن الإصلاح، الذي بات لازمة من لوازم الخطابات السياسية والمقالات الفكرية، خلافاً لجلسات الأنس، التي أصبح مرتادوها يستعرضون بكلمات تصنفهم في سلك النخبة، وتعدهم في صفوف الذوات، وإن جهلوا ما يتفوهون به، وأصبحوا كمثل الحمار يحمل أسفارا.
يجب أن أشير إلى أن هذه اللفظة باتت شديدة الحساسية لكثير من السياسيين في المنطقة، وما أشرت إليه في تغطيتي الصحافية في اليمن، وحضور التصور الذهني التقليدي للكلمة ومرادفاتها وعكسها، كان السبب. فالتصور أن الحديث عن الإصلاح يعني فساد القائم أو القديم، وهذا غير مقبول، ولذا استعاضوا عنها بكلمة تطوير. وما يمكن أن يرد على الإصلاح يرد على التطوير فهل يعني التطوير أن القديم كان بالياً غير متطور؟!.
الفقهاء يقولون: لا مشاحّة في الاصطلاح، ولو حذفنا الطاء، لأصبحت العبارة: لا مشاحّة في الإصلاح، وسقا الله أيام صاحبي الباكستاني خان، فهو أصبح ملازماً لجورج دبليو بوش في ذهني عندما يتحدث عن الإصلاح.
وأؤكد أني لست ضد الإصلاح ولا مع الفساد، لكنه كاريكاتير مصطفى حسين حرك الأشجان إلى ذكريات الإصلاحي... خان!.