إذا كان من الجائز أن يختلف الباحثون حول تعريف "المجتمع المدني"، فإن هناك واقعة أساسية لا يمكن أن تكون موضوع خلاف، وهي أن المعطى الأساسي الذي به يتحدد جوهر هذا المجتمع هو نسبته إلى المدينة.
غير أن ما هو "أساسي" لا يكفي وحده في تحديد مفهوم من المفاهيم. فإذا كان "المجتمع المدني" هو، بالتعريف، مجتمع المدن، فإن ما يحدد وضعه ومكوناته في زمان ومكان معينين هو ما يشكل "الضد" له في ذلك الزمان والمكان. عندما ظهر مفهوم "المجتمع المدني" في أوروبا كان "الضد" الذي به كان يتحدد ويتميز في أذهان مستعمليه هو الكنيسة التي كانت تشكل مجتمعا مستقلا متميزا، دولة داخل الدولة. وعندما انسحبت الكنيسة كمنافس للدولة وصارت الدولة وحدها هي السلطة الوحيدة المهيمنة اتخذ مفهوم المجتمع المدني معنى آخر، إذ أصبح هذه المرة يتحدد بـهذا "الضد" الجديد، وغدا شعارا يرفع في وجه كليانية الدولة، عسكرية كانت أم ملكية مطلقة... ومن هنا مفهوم "دولة المؤسسات"، ليس المؤسسات الإدارية والسياسية فحسب، بل أيضا المؤسسات التجارية والنقابية والصناعية.. الخ.
هذا في أوروبا. أما في العالم العربي، فالوضع يختلف: إن غياب الكنيسة، كجهاز اجتماعي يحتكر الدين و"يملك" نفوس الأفراد.. الخ، يجعل من الضروري البحث خارج مجال الدين، عن "الضد" الذي يتحدد به "المجتمع المدني". لنتساءل إذن: إذا كان "المجتمع المدني" هو، بالتعريف الأولي اللغوي، مجتمع المدن، فما هو "الضد" الذي كان – وما زال- يتحدد به "مجتمع المدن" في التجربة الحضارية العربية؟.
هنا يجب التمييز بين مرحلتين في تاريخنا الحضاري: مرحلة تتميز بانقسام المجتمع، حصرا، انقساما أفقيا: إلى "بدو وحضر"، إلى "بادية ومدينة". ومرحلة تتسم بانقسام عمودي إلى: "المجتمع العصري" و"المجتمع الأهلي". هذا مع التأكيد على أن المرحلتين لا تشكلان لحظتين من التطور الداخلي إلا بنسبة بسيطة، تكاد تنعدم في بعض الأقطار العربية. ذلك أن الانقسام العمودي لم يكن نتيجة صراعات داخلية أسفرت عن تجاوز المرحلة الأفقية (بدو – حضر) إلى المرحلة العمودية (طبقة ضد طبقة)، كما حدث في أوروبا عندما امتصت الثورة الصناعة (والتوسع الاستعماري) سكان الأرياف وألحقتهم بالمدن. إن الذي حدث هو على العكس من ذلك تماما: لقد غرس الاستعمار في الأقطار التي احتلها بنيات الدولة الأوروبية الحديثة، الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية، فعمل بذلك على فسح المجال لقيام نخب حديثة انبثق الجيل الأول منها من الأرستقراطية المدنية التقليدية خاصة، إذ كانت أكثر اتصالا واحتكاكا بالمستعمر ومؤسساته. ومع النمو النسبي السريع الذي عرفته هذه النخبة، ومع تطور وعيها الوطني بالارتباط بحركة التحرر من الاستعمار في العالم، برزت هذه النخبة لتشكل النقيض الذي أفرزه "التحديث الاستعماري" من جوفه وجوف المجتمع التقليدي والذي سيقود النضال الوطني من أجل الاستقلال. ومع أن مضمون "الاستقلال" كان ينصرف، أولا وقبل كل شيء، إلى استرجاع السيادة الوطنية، فإنه لابد من الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين مشروع هذه النخبة الجديدة وبين رد الفعل الشعبي الذي قادته النخبة التقليدية البدوية - أساسا- التي وقفت في وجه الغزو الاستعماري لدى بدايته. لقد تحركت هذه النخبة التقليدية بدافع واحد هو رد الغازي الأجنبي والحفاظ على الوضع القائم كما هو: وضع مجتمع تؤطره القبيلة والطائفة ودولتهما. أما النخبة الحديثة التي أفرزها التحديث الاستعماري، والتي قامت تطالب بالاستقلال، فقد كانت تحمل مشروعا جديدا قوامه إضفاء الطابع الوطني على المؤسسات والبنيات الحديثة التي حملها معه الاستعمار، ثم تنميتها وتأميمها لتؤطر فعاليات المجتمع بأسره.
ودون الدخول في تفاصيل، لا حاجة إلى التذكير بها هنا، نركز فقط على واقعة أساسية تنتظم عملية التطور الاجتماعي الذي عرفته الأقطار العربية منذ النضال من أجل الاستقلال إلى اليوم، هذه الواقعة هي تعاقب النخب بوتائر سريعة على شكل النقيض الذي يخرج من جوف الشيء، هذا التعاقب الذي يمكن أن نرسم له الصورة التخطيطية العامة التالية :
هناك أولا النخبة التي قادت الحركة الوطنية من أجل الاستقلال والتي خرجت من جوف الأرستقراطية المدنية التقليدية بفعل "صدمة الحداثة" الناجمة عن الاحتكاك بالغرب (الغرب المستعمر والغرب النموذج والمثال في آن واحد). هذه النخبة التي عملت على تجنيد "الشعب" وتوعيته وساهمت في نشر التعليم الحديث في صفوفه، سرعان ما ستجد نفسها أمام نقيض يخرج من جوفها، نقيض تقوده عناصر لا تنتمي إلى دائرة أرستقراطية المدن، بل هي في الغالب من الفئات التي سكنت المدن في إطار الهجرة الحديثة من البادية إلى المدينة التي عرفت منطلقها مع بداية المرحلة الاستعمارية. يتعلق الأمر أساسا بنخبة جديدة تقف في الصف الثاني وراء النخبة القيادية لتطالب بالانتقال بالنضال الوطني من مجرد العمل السياسي "المدني" الحزبي، إلى المواجهة والصدام (مظاهرات، إضرابات، مقاومة مسلحة) تحت ضغط عناد ا