مثّل اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق نقطة إقلاع جديدة باتجاه أكبر حوار راهن حول النظام العالمي الجديد-العولمي، وحول ما أثاره ويثيره من قضايا ومعضلات، ربما كان معظمها غير مسبوق. فبعد عِقد ونصف العقد من الحضور السوري والاستخباراتي في لبنان، الذي كُرّس في البدء بـ"اتفاق الطائف"، تدرك قوى لبنانية سياسية وشعبية مدنية أن ذلك الحضور أدى أغراضه، وراح يتحول إلى النسيج السياسي والاستخباراتي اللبناني ذاته، بحيث قاد ذلك - بحسب القوى المذكورة- إلى قضمٍ مفتوح لكل مظاهر المجتمع اللبناني. وازداد الوضع اضطراباً ثم التهاباً مع عملية التمديد لولاية رئيس الجمهورية هناك بعد إعادة نظرٍ مثيرة في الدستور اللبناني، ومع اغتيال رفيق الحريري على نحوٍ بدا فيه مهدّداً لاستقرار المنطقة برمّتها ومؤرّقاً لمرجعيات سياسية وقضائية واستراتيجية دولية.
ونحن هنا لسنا في معرض البحث عما كمن وراء ذينك الحدثين الأخيرين وأحداث أخرى معاصرة لهما وسابقة عليهما. ولكننا نعمل على التدقيق في شعار "السيادة والاستقلال"، الذي رفعته القوى اللبنانية السياسية والشعبية المدنية في سياق ذلك ومواجهة لأمرين اثنين، هما الوجود السوري السياسي والاستخباراتي في لبنان، والدولة الأمنية المستفحلة بكيفية كبيرة في هذا الأخير. فلقد انطلقت قوى سياسية دولية -أميركية وفرنسية خصوصاً- تندّد بما راح يهدّد باشتعال حرب أهلية جديدة لبنانية. ووصل هذا التنديد إلى صيغة القانون، الذي أصدرته المنظمة الدولية وحمل رقم 1559 القاضي بانسحاب القوات العسكرية والأمنية السورية من لبنان، وكذلك إلى صيغة لجنة التحقيق التي ألفها مجلس الأمن للبحث في حيثيات اغتيال الحريري. وفي هذا وذاك، لوحظ اهتمام الولايات المتحدة - رأس النظام العولمي- بمسألة استقلال لبنان اهتماماً فائقاً، وذلك على نحو يستدعي طرح السؤال التالي: أليس هنالك مفارقة بين القول بالأسس والقواعد التي يرتكز إليها النظام المذكور ومنها خصوصاً التأكيد على ضرورة تفكيك مفهوم الدولة الوطنية والاستقلال الوطني والثقافة الوطنية من طرف، وبين الدعوة الأميركية الحثيثة للاستجابة لمطالب المجموعات اللبنانية في الاستقلال والسيادة وحرية القرار من طرف آخر؟.
نعم، هنالك مفارقة وتناقض حاسم بين ذلك القول وهذه الدعوة، مما يدعو إلى التبصّر فيما يقف وراءه. فالنظام العولمي يقوم على عدة خيارات تجد تكاملها فيما بينها على الاستراتيجية العولمية الكبرى، التي قد تتحدد في المقولة التالية: تفكيك هويات الشعوب والأمم والمجموعات بمثابته خطّها الأساسي الناظم، وسلوك الطريق إلى هذا الهدف بكيفيات وصيغ متعددة تعدُّد الاحتمالات القائمة في المرحلة التاريخية المعينة. وقياساً على ذلك، إذا كانت الآلية القائمة على الدعوة لتحقيق الهيمنة الكونية للنظام العولمي مرهونة بتوحيد العالم تحت قبضة القوى المهيمنة (وحّد، تسد) هي الأساس الاستراتيجي، فإن طرقاً "أخرى" يمكن أن تُسلك إذا استجابت لهذه الآلية استجابة وظيفية. وهنا، يصبح الأخذ بـ"آليات مساعِدة" أمراً وارداً، كما هو الحال فيما يتعلق بالمقولة الاستعمارية الموروثة: فرّق، تسد.
وإذا كان الأمر على هذا النحو من الوضوح، الذي يُراد له أن يكون مخترقاً بالالتباسات، فإنه من الأهمية المنهجية والسياسية بمكان أن نضع يدنا على النقطة التالية: إن اللعب على مبادئ الاستقلال والسيادة لشعب أو آخر من قِبل النظام العولمي لا يسير لصالح هذا النظام وحده، وإنما يمكن أن يسير - كذلك- لصالح الشعوب والدول المنافحة عن سيادتها واستقلالها، مما يعني -استراتيجياً- وجود إمكانات لاختراق النظام العولمي، ومن ثم وجود إمكانات مفتوحة لمنازلة هذا النظام من مواقع ضعفه النسبية أولاً، وعبر تمثّلٍ مناسب وممكن للانتصارات التي يحققها على صعيدي ثورتي المعلومات والاتصالات ثانياً، وانطلاقاً من "الداخل"، داخل الشعب المعني أو الشعوب المعنية -العربية هنا- ثالثاً.
اللجوء إلى المنظمات والمؤسسات الدولية يمثل بداية لفتح أبواب غزوها لهذا العالم. فمثل هذا الإعلان يمكن أن يتوافق مع أحد الاحتمالات التالية: 1- الخوف من افتضاح "الأمور الداخلية" الفاسدة المفسدة، ومن تسليط الأضواء عليها نظراً وربما فعلاً. 2- الاعتقاد بأن الداخل العربي -وهنا اللبناني- ليس بإمكانه الارتفاع إلى مستوى التحديات الآتية من الخارج، وبأن "في الستر السلامة". 3- الهروب إلى الأمام للتستر على العبث الخطير المسبَّب من "الداخل" و"الجوار"، وذلك باسم الأخوّة والتضامن والمعركة الواحدة، كما حدث مع الكويت سابقاً، وكما يحدث مع لبنان راهناً.
وقد يلاحظ المدقق أن الرابح الأكبر في هذه الحال إنما هو الشعب اللبناني، الذي إذا ما حقق استقلاله واستعاد المجتمع السياسي الديمقراطي، فإنه يمكن أن يكون أكثر قدرة على التعامل مع الخارج العولمي والعالم عامة. إن ذلك المجتمع السياسي الديمقراطي يصوب أخطاءه من داخله، بقدر ما يسهم في البناء الداخلي والخارجي.