من بين النتائج الأكثر إثارة للإزعاج، التي ترتبت على التورط الأميركي في العراق، ذلك السيل من التبريرات المنطقية، الذي انهمر علينا من مختلف درجات الطيف السياسي والثقافي الأميركي، فيما يتعلق بمسألة إدراج الإسلام في الدستور العراقي الجديد.
ليس هناك ما يثير الاستغراب عندما تأتي معظم تلك التبريرات المنطقية من جانب اليمين. فنائب الرئيس "تشيني" على سبيل المثال، تجاوب - كما كان متوقعا- مع نتائج الانتخابات العراقية التي جرت في شهر يناير الماضي، والتي وسّعت من سلطة الأحزاب الشيعية الدينية بالقول "نحن نثق ثقة كبيرة في الاتجاه الذي ستمضي إليه تلك الأحزاب". ما الذي يمكن لمهندس حرب أن يقوله أكثر من ذلك؟.
وقيام اليمين المسيحي بردود أفعال مماثلة، يغدو أمرا أكثر منطقية في هذه الحالة، وخصوصا أن المنتمين إلى هذا التيار، دأبوا دائما على انتقاد قيام الدستور الأميركي بالفصل بين الكنيسة والدولة. وطالما أن الأمر كذلك، فما هو الشيء الذي يمكن أن يقلقوا بشأنه، إذا ما قامت الحكومة العراقية الجديدة بمنع المرأة من الطلاق دون الحصول على موافقة زوجها، أو إذا ما اعتبرت أن شهادة المرأة القانونية تعادل نصف شهادة الرجل؟.
فطالما ابتعد العراقيون عن الحظر المفروض على كافة أشكال العبادة الأخرى كما هو الحال في السعودية على سبيل المثال، فإن الدستور العراقي القائم على أساس ديني، لن يشكل أية عقبة منطقية للأصوليين الأميركيين.
ولكن صقور المحافظين الجدد، واليمين الديني، ليسوا بمفردهم على الإطلاق في النظرة المتفائلة تجاه اتخاذ الإسلام أساسا لدستور حكومة دولة صديقة. وهناك بعض اليساريين في أميركا ممن أسلموا قيادهم لنوع من التعددية الثقافية المترفعة - أي التي تسمح بحرية الضمير لهم وتحرمه على غيرهم- يقومون الآن بضخ تبريرات منطقية، لتبرير قيامهم بالنظر إلى الناحية الأخرى، إذا ما تم فرض الشريعة الإسلامية على شعب العراق.
والعديد من أعضاء مؤسسة الدراسات الإسلامية الجديدة في الولايات المتحدة، ينظرون إلى الاعتراضات التي يثيرها البعض تجاه قيام اتحاد بين الحكومة وبين الإسلام في العراق، على اعتبار أن ذلك يمثل دليلا آخر على ضيق الأفق الأميركي. وحول هذه النقطة يؤكد السيد "فرانك إي. فوجل" مدير برنامج الدراسات الإسلامية القانونية في جامعة "هارفارد" على نقطة مهمة وهي:"إن مجرد ذكر الإسلام في سياق دستوري، يجب ألا يكون سببا للمبالغة في ردود الأفعال من جانب البعض".
ويضيف "فوجل": إن ذلك يمكن أن يشكل موجبا مشروعا للخوف، ولكنه يمكن أيضا أن يكون مجرد موضوع رمزي بحت".
ولكن إذا ما كان لنا أن نتعلم شيئا من التاريخ، فهو ذلك الدرس الذي يقول إن قيام الحكومات بفرض القانون الديني، كان دائما هو العدو الطبيعي للحريات الفردية وحقوق الأقليات.
ومن بين "التسويات" المقترحة من قبل أنصار مذهب التعددية الثقافية، القيام بإنشاء إطار من القانون العلماني، الذي يعطي - على الرغم من طبيعته- السلطات الدينية الصلاحية الكاملة للبت في الأمور الحساسة مثل الزواج والطلاق.
كانت هذه هي تحديدا التسوية التي أبرمتها الدولة الإسرائيلية الوليدة عام 1948 مع الحاخامات الأرثوذكس.
فعلى الرغم من أن القانون في إسرائيل علماني، إلا أن المحاكم الحاخامية هناك لها ولاية شبه كاملة فيما يتعلق بالبت في المسائل الحساسة المتعلقة بالزواج والطلاق. فالمرأة اليهودية (حتى لو كانت يهودية غير ملتزمة) لا يجوز لها أن تحصل على الطلاق، إلا بعد حصولها على موافقة من زوجها في صورة مرسوم طلاق ديني. فبدون الحصول على مرسوم طلاق ديني، فإن المرأة اليهودية لا تستطيع أن تتزوج مرة ثانية في إسرائيل، وإلا تم اعتبار أبنائها من الزواج السابق غير شرعيين.
هل هناك أحد يتوقع بشكل جاد أن ولاية الإسلام على قانون الأسرة في العراق، ستنتج معاملة للنساء العراقيات، أكثر عدلا مما أنتجته ولاية اليهودية الأرثوذكسية بالنسبة للنساء الإسرائيليات.
في أفغانستان، خضعت الولايات المتحدة لمطالب التيار الإسلامي المتصلب، بتضمين الدستور الذي تم إقراره في أفغانستان في مرحلة ما بعد حكم طالبان بندا يحظر تمرير أي قانون "يناقض الدين الإسلامي الحنيف". والمعارضون لهذه الصفقة "الفاوستية" (فاوست هو الشخصية التي ابتكرها الفيلسوف الألماني الكبير جوتة، والتي أقنعها الشيطان في النهاية بأن الطريق إلى المجد والعظمة إنما يمر به) يستمدون بعض الراحة من حقيقة عدم رغبة الرئيس الأفغاني "حميد قرضاي" في فرض هذا البند. ولكن السؤال هنا هو: ماذا يمكن أن يحدث عندما يذهب قرضاي ويخلفه رئيس آخر لا يشاركه آراءه المعتدلة؟ إن الدستور الذي يعطي الدين "مكانة مقدسة" يقدم في الوقت ذاته دعوة مفتوحة للسياسيين ورجال الدين للتحكم في تعريف معنى القداسة لبقية المجتمع.
والمتفائلون بإمكانية التوصل إلى حل وسط، أو إلى تسوية بين الدولة والمؤسسة الدينية، على غرار تلك التي تحققت في الغرب بين الدولة والكنيسة،