هناك أوجه للمراهقة تتعدى الحيز البيولوجي والجنسي، ومنها ما يأخذ صورة المراهقة الفكرية والسياسية، وهذه تتشكل وفقاً للأفراد، والبيئات، والمؤثرات، والطموحات (ما كان منها عقلانيا، وما كان منها جنونياً). بعض المراهقات الفكرية والسياسية يمتد إلى فترات زمنية تتعدى المتوقع، وبعضها يواصل الامتداد إلى فترات مدهشة ترافق الفرد المعني إلى مراحل متقدمة من العمر. عندها تصبح مرحلة النضوج التي عادة ما تلي مرحلة المراهقة بعيدة المنال وغير متحققة عند أولئك الأفراد. في المحيط الذي يشتغل فيه هؤلاء، وخاصة عندما يكونون في مناصب عليا أو في سدة الحكم، تتحول الصورة العامة إلى مزيج من السريالية والكاريكاتورية، إذ يرتبك مفهوم الزمن ومفهوم النضج ويتفارق بين الاستقالة العقلية المرافقة للمراهقة أياً كان نوعها عند الأفراد المصابين بها، وبين المحيط الذي انطبقت عليه دورات المراهقة والنضوج الطبيعية فانتقل إلى مراحل متقدمة.
بالتوازي مع انغراس قائد ما في مرحلة مستديمة من المراهقة الفكرية والسياسية ومع مرور السنين من حوله تصبح الأجيال الشابة في دولته وهي الأجيال الأصغر منه سناً أكثر منه نضجاً بشوط طويل، لأنها ببساطة تعدت مراحل مراهقتها المختلفة. وعندما يتسع فارق المراهقة الفكرية السياسية بين قائد ما وشعبه، وفي سياق تسيد سيطرة مطبقة لذلك القائد على مقاليد السلطة والحكم تختفي معالم النضج عند أية شرائح من الشعب لصالح بروز معالم المراهقة عند القائد، بما يشوه وجه وصورة البلد المعني بشكل عام فيصبح وكأن البلد كله متشكل في قالب المراهقة. ومن هنا يأتي الخلط والتشويه الذي نراه في أحايين كثيرة جداً في أوساط الإعلام العالمي عند التعرض لبعض بلدان العالم الثالث والبلدان العربية، عندما يتم رسم صورة متماهية بين بلد محدد وقيادته المراهقة.
أكثر صور المراهقة السياسية المنتشرة في أوساط قيادية هي صور معاد إنتاجها من المراهقات الشبابية البيولوجية في سن البلوغ الجنسي، حين يظن الفرد أنه مركز الكون، وأن العالم بانتظاره ولن يستطيع أن يسير إلى الأمام من دون العبقرية القيادية والنظريات الجديدة التي سيضيفها هذا الفرد إلى إنجازات العالم.
من المفهوم والمعلوم من علم النفس بالضرورة أن تلك المراحل البيولوجية لابد أن تأخذ شوطها كاملاً، ثم ما تلبث أن تبدأ بالخفوت التدريجي إلى أن تنتهي مسلمة زمام المرحلة العمرية التالية إلى مستوى ما من مستويات النضج. لكن ما ليس من المعلوم بالضرورة، ومحير حقاً هو امتداد مراحل المراهقة السياسية والفكرية عند بعض القادة إلى ما لا نهاية. في حالة الفرد العادي، مقارنة بالفرد القائد، لا يهم إن امتدت حقبة المراهقة البيولوجية، أو حتى الفكرية والسياسية. ففي منتهى الأمر يظل الفرد العادي في غير موقع التأثير القيادي. وينحصر أثر نزواته وغزواته المراهقية، سواء في البيولوجيا أو السياسة والفكر، على ذاته وعلى الدائرة الضيقة المحيطة به. إنه لا يؤثر في مسار الشأن العام في بلده.
لكن الأمر مختلف عندما تحل لعنة المراهقة السياسية والفكرية بقائد ما (وكذلك إن حلت به المراهقة الجنسية، والتي لا تقل بدورها انتشاراً وتأثيراً في تلك الأوساط عن المراهقات السياسية). فهنا يكون الثمن غالياً إذ يكون من الحساب الجاري للوطن وللشعب والخيارات الاستراتيجية والاقتصاد والسمعة العالمية. فعندها يرتهن الوطن إلى نزوات وقرارات حادة غير مبوصلة، ترتد بالشأن العام من اليمين إلى اليسار بوتيرة سريعة ومرهقة ومشتتة، يتساقط أثناءها كثير من الثوابت، وكثير من الإجماع السياسي، وكذا بالطبع تتساقط شعارات كانت إلى الأمس القريب تشكل الفضاء العام لمرحلة مراهقة سياسية سابقة لكن مختلفة. وهنا عادة ما يتسم الانتقال من مرحلة مراهقة سياسية إلى أخرى بالحدة والجذرية البالغة التي لا تتحملها طبيعة الاجتماعات البشرية، وإن كان بالإمكان قبولها على مستوى فردي معين. فمثلاً، إذا كانت دولة ما متحالفة مع دولة قوية وتابعة لها وناظمة لسياستها ونظامها الاقتصادي وفقاً لنسق تلك التبعية فلنا أن نتوقع أن شكل وبناء تلك الدولة الداخلي سيكون متناغماً مع طبيعة ذلك التحالف. وهذا يعني أن الاقتصاد والإدارة ونمط العمل والإعلام والتعليم وسوى ذلك ينسج على منوال معين. وعلى تلك الخلفية، إن شاء وقررت قيادة سياسية مراهقة أن تغير ذلك التحالف مئة وثمانين درجة وعبر قرار اعتباطي متسرع وغير تدريجي فإن الأكلاف ستكون باهظة على مستوى وطني عام. وإن قررت تلك القيادة، كمثال آخر، أن تكتشف نوعية ولاء قومي وجغرافي وإثني وثقافي آخر لبلدها بقرار متأسس على نزوة طيش أو غضب أو لمجرد التشاوف ولفت الأنظار، فإن الأكلاف تكون هائلة أيضاً. وإن قررت تلك القيادة، كمثال ثالث، أن تصفع نفسها وتعاقب ذاتها على مرحلة مراهقة سابقة مرت بها وجلبت عليها غضبا عالميا، وخاصة غضب أميركيا، بهدف محاولة شرعنة مرحلة مراهقة جديدة فإن النتيجة لن تنجح في إرضاء الخصم القديم (الصديق الجديد) إلا مؤقت