الفقر والمرض كلمتان تترادفان دائما. فالفقر، وخصوصا المدقع منه، يترافق مع قائمة طويلة من الأمراض، تنتج عن، أو تزداد وطأة مع انخفاض المستوى الاقتصادي والاجتماعي للفرد وللأسرة. ولكن كما يترافق الفقر مع المرض، يترافق أيضا الغنى والثراء، وخصوصا الفاحش منه، مع قائمة طويلة هي الأخرى من الأمراض. هذه القائمة أصبحت تعرف في عالم الطب بأمراض الثراء أو الأغنياء (Diseases of Affluence) وتضم على سبيل المثال وليس الحصر: داء السكري، والسمنة، وأمراض القلب، والسرطان، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض المناعة الذاتية، والربو الشعبي، وإدمان الكحوليات، والاكتئاب، وطيفاً آخر من الأمراض النفسية. وتتشابك العلاقة بين بعض تلك الأمراض، بحيث يصبح بعضها سببا أو نتيجة لبعض آخر، مثل السمنة والتي تنتج جراء الإصابة ببعض الأمراض، وتتسبب هي نفسها في مجموعة أخرى. وتتميز جميع أمراض الثراء بميزة أساسية، هي كونها أمراضاً غير معدية، أي أنها لا تنتقل من شخص إلى آخر، وإن كانت غالبا ما تصيب شريحة كبيرة من أفراد المجتمع. هذا على عكس أمراض الفقراء، التي غالبا ما تكون أمراضاً معدية تنتقل عن طريق الجراثيم والميكروبات من شخص إلى آخر، نتيجة انخفاض مستوى الصحة العامة، وتدهور مستوى الصحة البيئية، وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية. والملاحظ أن الاتجاه الحالي هو نحو تفاقم أمراض الثراء، وخصوصا في الدول الصناعية بسبب زيادة متوسط طول العمر والاعتماد على تقنيات الرفاهية بشكل أكبر.
والمتابع للتغطية الإعلامية للوضع الصحي في الدول العربية، والخليجية منها على وجه التحديد، سيجد أن أمراض الثراء قد أصبحت تحتل رأس قائمة المشاكل الصحية التي تعاني منها تلك الدول. ففي شهر فبراير الماضي، وضمن أعمال المؤتمر العالمي الأول للمجموعة الخليجية لدراسة داء السكري، والذي عقد على هامش مؤتمر ومعرض الصحة العربي، كشف الخبراء عن مدى استفحال معدلات الإصابة بداء السكري في دول الخليج العربي. حيث تشير تقديراتهم إلى أن عدد المصابين بالمرض في دول الخليج يصل حاليا إلى أربعة ملايين شخص، مليونان منهم على دراية بمرضهم، بينما لا يدرك مليونان آخران إصابتهم بالمرض من الأساس. وهو ما يعني أن نسبة معدلات الإصابة بالمرض تصل حاليا إلى عشرين في المئة من عدد السكان الإجمالي. وهو ما يجعل من مرض السكري إحدى أكبر المشاكل الصحية في دول الخليج على الإطلاق، وسببا رئيسيا للوفيات المباشرة وغير المباشرة. حيث تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد الوفيات في دول الخليج بسبب السكري تصل إلى 200 ألف شخص سنوياً. وأشار المتخصصون أيضا إلى مدى فداحة الاستنزاف المالي الهائل الواقع على ميزانيات دول الخليج، والذي يتجاوز حاجز الخمسة مليارات درهم سنوياً، تنفق جميعها على المصاريف المباشرة للعلاج، بينما يصل حجم المصاريف على علاج المضاعفات الناتجة عن المرض إلى أكثر من ستين مليار درهم سنوياً. وفي الأسبوع الماضي، عادت ندوة الشارقة الأولى لداء السكري، والتي نظمتها كلية العلوم الصحية بجامعة الشارقة بالتعاون مع وزارة الصحة وبحضور عدد من الخبراء والمتخصصين، إلى التأكيد على مدى فداحة الثمن الإنساني والمادي لمرض السكري في الدولة، وإلى التحذير من استمرار التزايد المطرد لانتشار المرض بين المواطنين والوافدين على حد سواء.
وعندما يتعلق الأمر بأمراض القلب، فالحال لا يختلف كثيرا عن حال داء السكري. فقبل أيام من ندوة الشارقة، خرج أطباء أمراض القلب في مدينة الشيخ خليفة الطبية في أبوظبي، بتحذير شديد من تزايد أعداد مرضى القلب في الإمارات، وخصوصا بين الشباب في الثلاثينيات من العمر. وحسب إحصائيات المدينة الطبية، تردد قرابة ستة آلاف مريض بأمراض القلب على العيادات الاستشارية والتخصصية، في كل من مستشفى خليفة بن زايد ومستشفى الجزيرة في العام الماضي فقط. ومن بين هؤلاء، تطلبت الحالة الصحية الحرجة لألف وتسعمائة منهم حجزهم في أقسام العناية المركزة القلبية. وهو ما دفع بإدارة المدينة الطبية إلى التوجه للتوسع في الخدمات الطبية المقدمة لمرضى القلب خلال المرحلة المقبلة، لتغطية التزايد المتوقع في أعداد هؤلاء المرضى. وعلى صعيد خصوصية دولة الإمارات فيما يتعلق بأمراض الأثرياء، فيمكن أن نضيف هنا أيضا حوادث الطرق. ورغم أن حوادث الطرق لا تصنف كلاسيكيا مع هذه الأمراض، ولكنها تنتج في الواقع عن زيادة الثروة في المجتمع، وما يتبع ذلك من زيادة نسب امتلاك السيارات بين الأفراد، وخصوصا السريعة والفارهة منها. هذه الحوادث تشير الإحصائيات في الدولة إلى أنها تتسبب في تعرض شخص واحد للإصابة كل ساعتين، ووفاة شخص كل 12 ساعة تقريبا. ومثل هذا المعدل المرتفع لحوادث الطرق بالدولة، جعل البعض يدقون ناقوس الخطر ويطلقون على هذا الوضع المأساوي مصطلح نزيف الإسفلت. وهو ما دفع أيضا جامعة الإمارات إلى تدشين مركز بحوث الطرق والمواصلات وسلامة المرور، في الثالث عشر من الشهر الجاري، وبالتعاون مع مركز بحوث الحوادث في جامعة