لا أجدُ مثيلاً لما فعله القذافي في القمة العربية. فالقذافي سخر من مبادرة العرب للسلام واقترح بديلاً دولة "أسراطين" بين العرب واليهود. ونحن نعرف أنه أحد أسباب الضعف العربي والفلسطيني طوال عقود. فقد ظلَّ يدعم أبو نضال، الذي دأب على اغتيال القادة الفلسطينيين، حتى وفاة الأخير عند صدام حسين مقتولاً. والقذافي دعا اللبنانيين لقبول الخضوع لدمشق، رغم ما جرى ويجري، وإلاّ عادت الحرب الداخلية بينهم من جديد. ونحن نعرفُ أنه فعل بلبنان أفعالاً شائنةً في النزاع الداخلي بالذات، ومن ضمنها إخفاء الإمام الصدر، والتلاعب بالأمر حتى الآن. ومن يده ملوَّثةٌ بدماء اللبنانيين لا يستطيع أن يقدّم نصائحه الثمينة لأحد. ومعمر القذافي مثله مثل وزير خارجيتنا وخارجيتهم فاروق الشرع، لأنّ ضميره مثل ضميره. نصحنا القذافي بنسيان جريمة اغتيال الحريري، وكذلك نصحنا فاروق الشرع: لأنَّ الحقيقة قد تفجّر لبنان! ونحن نعرفُ تماماً أنّ الحقيقة لن تفجّر غير أولئك الذين دأبوا على احتقار عروبتنا وإنسانيتنا ووجودنا. وقال القذافي للرؤساء والملوك العرب إنه يستخسر نفسه بينهم فهو فيلسوفٌ كبير، ولا يرى فائدةً في السياسة العربية! وهو بالقطع ليس فيلسوفاً، ولا إنساناً عادياً. لكنْ حبذا لو كان كذلك، فلا يصير زعيماً لبلدٍ عربي لعدة عقود مدمّراً الأخضر واليابس. إنه كما قال فيه محمد حسنين هيكل: لقد قضى عشر سنواتٍ قومياً عربياً، وعشر سنواتٍ أخرى عدواً للولايات المتحدة. وهو يقضي حقبته الثالثة الآن بمسح آثار الحقبتين السابقتين!
ولندع القذافي وسخريته غير الظريفة إلى القمة البائسة وقراراتها التي لا تليق بها سوداوية العقيد رغم مشكلاتها الضخمة. ذلك أنّ خطأنا محاسبة الجامعة العربية مجالسَ وقمماً كأنما هي مؤسسةُ القرار العربي، ومبلورةُ إرادته وإجماعاته؛ بينما هي ليست كذلك منذ أكثر من عقدٍ ونيّف. مثّلت الجامعةُ العربية عندما أُنشئت بلورةً سياسيةً للانتماء العربي، وإرادةً للتوحد والنهوض. ويكفي الفكرة العربية قوةً آنذاك أنها دفعت الجامعة لاتخاذ قرارٍ بالحرب ضد الدولة العبرية الجديدة. ثم جمعت الشعوب العربية من وراء مصر في حرب السويس. وأرغمت المصريين والسوريين على إقامة دولة الوحدة(1958-1961). وفي أول مؤتمرٍ للقمة من ضمن الجامعة، دعا إليه الرئيس جمال عبد الناصر عام 1964 بالإسكندرية اتُخذت قراراتٌ بشأن منظمة التحرير، وبشأن تحويل مياه الأردنّ واليرموك، وإنشاء القيادة العربية الموحَّدة. وهذه جميعاً أمورٌ مصيريةٌ آنذاك واليوم؛ لأنَّ الجامعة كانت ما تزال في مرحلتها الأولى، مرحلة تمثيل الانتماء العربي، والإرادة السياسية العربية. ويمكن قولُ الشيء نفسه عن مؤتمر الخرطوم عام 1968 لمعالجة آثار هزيمة العام 1967. وحتى مؤتمر بغداد عام 1977 للتعامل مع احتمال الصلح الساداتي مع إسرائيل ما أفقد الجامعة هويتها بل بعض وظائفها. لقد تبلور الانتماء العربي في مؤسسة تمثّله وتحميه موطنُها مصر، والصهيونية أكبر خصومه القريبين. ولهذا فإنّ الصلح المصريَّ أسقط الخيار العسكريّ، وأحدث خللاً ترتب عليه افتقاد التوازن داخل المشرق العربي. ومع ذلك فقد ظلّ الضررُ محتملاً لأنّ العربَ جميعاً رفضوا الخطة الساداتية. واستطاعت الجامعة والقمة بعد ذلك اتخاذ قراراتٍ مهمة مثل صنع السلام في لبنان من خلال قمة الرباط وصولاً للطائف. ومن مثل دعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى. ومن مثل اخراج العراق من حربه على إيران سالماً.
ثم جاءت الضربة القاصمة التي أدخلت الجامعة في مرحلتها الثانية: مرحلة تماسك الحدّ الأدنى، بدون القدرة على المبادرة أو اتخاذ القرار. إنها حربُ العراق على الكويت. فصدام الذي ما كاد يخرج من حربه على إيران سالماً، سُرعان ما احتل الكويت، وشرَّد شعبها، وخرَّب عمرانها. ولسنا هنا بصدد شرح أسباب ذلك؛ بل المقام هنا لإيضاح آثار ذاك الغزو على الانتماء العربي، وعلى الجامعة العربية. لقد تعذر اجتماع الجامعة فضلاً عن القمة لعدة سنوات، ودخلت القوات الأميركية إلى الشرق الأوسط عام 1990/1991 وهي ما تزالُ فيه بعد احتلال العراق عام 2003 وتخريبه. ماذا تستطيع الجامعة أن تفعل؟ عيَّرنا الأميركيون بأننا نكرهُهُم فاعترفنا بذلك وعلّلناه بما فعلته وتفعله مع إسرائيل في فلسطين. لكنّ المشكلة ما كانت في الأصل من صُنع الولايات المتحدة، بل من صنع صدام حسين، الذي تحيّر كيف يدمّر بلداً قضى العثمانيون وقضى العرب ثلاثمائة عام في إحيائه، وإعادة ضمّ أجزائه بعضها إلى بعض.
دخلت الجامعة مرحلة انكماش الانتماء وتحوله إلى هوية متضائلة؛ همّها الرئيسي القدرة على مجرَّد الاجتماع إثباتاً للوجود، وليس لإرادة الوجود. وجاءت محاولة الأمير عبد الله في قمة بيروت 2002 للعودة بالجامعة إلى طابعها وانتمائها الأول، باعتبارها صاحبةَ قرار. فكانت المبادرة العربية للسلام، والتي رفضها شارون آنذاك بعد يوم؛ وعاد لرفضها الآن وزير الخارجية الإسرائيلي خلال عرضها في مؤتمر قمة الجزائر، دون أن يضيع يوما