في مقال سابق تأملنا حال من يقفز في الهواء فيوجهه التيار إلى حيث هو صائر بلا حول منه ولا قوة، ورأينا أن هؤلاء البشر لا يصنعون حضارات يعتمد عليها، لأن الإنسان غير القادر على التخطيط هو في حقيقة الأمر ينفذ خطط غيره ومن ثم أهداف الغير هي التي تتحقق. وخير تطبيق مر بنا الأسبوع الماضي حال الجامعة العربية التي جمدها العرب تقريبا منذ أن أسست، ولن تتغير إلا إذا قرر غيرنا ذلك، وعندها نعيش صراع: هل نغير لأن الغير طلب منا ذلك؟ ولو كان الخير في التطوير أم نتعصب إلى ما نحن عليه من واقع توجهه الريح حيث مالت؟. وموضوعنا اليوم لا يقل خطورة عن سابقه لكنه يتعرض إلى نوع آخر من المزالق التي يقع فيها بعض البشر، ألا وهو القفز مع الهوى. القافز الأول يحلق لكنه مع الهواء، فيعتمد بهذا على اتجاه الريح إما تقوده للخير أو للهاوية، أما صاحبنا فيطير لكنه مع هواه. الأول توجهه عوامل خارجية إلى المجهول أما الثاني فيتحرك لكن حسب أعاصير الداخل حيث ما يعتقد أنه خير له لكنه شر منتظر، وهل هناك شر مثل أن يتبع الإنسان هواه، كما قال تعالى "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه". لكن ماذا عمن يعتقد أن هواه يقوده إلى الخير دائما؟ أقول لو استثنينا من ذلك الأنبياء فكل البشر بعدهم يترنح هواهم بين الفطرة السوية والنفس الأمَّارة بالسوء. وهنا تكمن المعضلة في تمييز الفطرة عن النفس السيئة، ومن هنا لجأ الناس إلى عوامل كثيرة على الصعيد الشخصي والجمعي للتحكم في الهوى، وقبل استعراض هذه العوامل دعوني أسوق لكم بعض الأمثلة العامة والفردية على الموضوع.
في عالم الإدارة الشمولية لا يرتاح المدير إذا قرر الناس فرض مجلس أعلى يشرف على المؤسسة عندها يسمى هذا المدير بالتنفيذي، أما من استغنى عن مثل هذه المجالس، فإنه يتفرد بالإدارة وعندها تصبح الشركة في مهب الأهواء، الأمر نفسه ينسحب على أنظمة الحكم المختلفة، فمن تفرد في إدارة الدول كبعض الإمبراطوريات العربية العسكرية، يصبح صاحبها المتفرد بالقرار مما يحول مجتمعه كله إلى أداة تنفيذ لنزوات من بيده الأمر فتارة تكون أوروبا الشيطان الأعظم، وفجأة تتحول إلى الصديق الحليف. وفي الحياة الفردية توجد نماذج لذلك، فمن أراد مثلا اتباع هواه في الحصول على اللذة الرخيصة قد يأنس لأنه لا تربطه متطلبات الأسرة، لكنها لذة تقود إلى الهاوية.
دعونا نعرج قليلا على ما قامت به الدول للتحكم في الهوى. كلنا يعرف قوة الرئيس الأميركي في العالم كله، لكنه رئيس لم يترك إلى هواه، فلا يستطيع مثلا أن يعين وزيرا بمفرده. تصوروا حال الرئيس الذي لا يستطيع الانفراد بتعيين وزير في حكومته، لأن النظام يفرض عليه ترشيح من يعتقد أنه مناسب ومن ثم يناقش هذا المرشح من قبل الشعب الذي يمثله الكونجرس وبعد ذلك يقرر تثبيته أو رفضه. كما أن هذا الرئيس بإمكان المواطن الأميركي محاكمته لو تجاوز حدوده، وما حال الرئيس "كلينتون" عنا ببعيد عندما قاده هواه إلى تجاوز حدوده فتمت محاكمته. لذلك ففي الدول المتقدمة تتم عملية فصل السلطات بعضها عن بعض فالسلطة التنفيذية تنفذ القانون الذي تقدمه السلطة التشريعية والقضاء يحكم بينهما في حالة وجود الاختلاف، كل هذا لا يتم عبثا، لكن استقراء التاريخ يبين لنا أن من مصائب الدول أن تتبع هوى شخص واحد مهما بلغ به الأمر، فتم تشريع القوانين التي تحد من صلاحيات الأفراد كي تعيش الدول بسلام ولا تترنح بتغير الهوى.