تهتم الصحف العربية هذه الأيام بأنباء اجتماع القمة العربية في الجزائر، ولكن الموضوع المهم الآخر هو مسألة العلاقات العربية الثنائية وليس العلاقات الجماعية العربية، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات. ومثلما غاب حوالي نصف القادة العرب عن مؤتمر الجزائر، فإن هناك أيضاً إشكالية عميقة ربما توازي ما يحدث على المستوى الجماعي. فالعلاقات الثنائية العربية هذه الأيام تعيش بالفعل شكلاً من أشكال الأزمة. فهناك أزمة في العلاقات بين سوريا ولبنان، وهناك أزمة في العلاقات بين الأردن والعراق، وهناك أزمات ثنائية أخرى.
والعلاقات الثنائية بين الدول العربية لم تكن يوماً علاقات مميزّة، بل ربما تأرجحت بين العلاقات الطبيعية والعلاقات المتوترة. ففي فترة الستينيات اتسمت العلاقات الثنائية العربية بشكل من أشكال الحروب الإعلامية، التي كان فيها كل جانب يحاول تأليب الرأي العام الداخلي في الدول الأخرى ضد قيادة ذلك البلد. وفي فترة السبعينيات اتسمت العلاقات الثنائية خاصة بين دول الجوار، مثل اليمن الجنوبي واليمن الشمالي والجزائر والمغرب، وبعض الثنائيات في دول الجوار العربي بشكل من أشكال التنافس في صرف العائدات النفطية في سباقات تسلح متوازية. وهناك بعض المقالات والأبحاث العلمية التي تثبت هذا الطرح بشكل إمبريقي (تجريبي عملي). وفي الثمانينيات تميزت العلاقات الثنائية بشكل من أشكال الاعتماد الأحادي، خاصة في مجال الدعم للميزانيات الحكومية، أو الدعم في مجال المساعدات الاقتصادية.
وظهرت الحاجة لمثل هذا الدعم لأسباب اقتصادية ناتجة عن ضعف في الموارد الاقتصادية لبعض الدول العربية توازيه زيادة في موارد بعض الدول المجاورة. وللأسف فلم يحظ مثل هذا الدعم الاقتصادي باعتراف الدول المستفيدة، بل تجاهلت بعض الدول هذا النمط من الدعم، واعتبرته في بعض الأحيان وكأنه حق لها. لذلك فلم يترجم هذا الدعم الاقتصادي إلى تقارب سياسي إلا على مستوى الطبقة السياسية الحاكمة ولمصالح منفعية آنية أو مؤقتة.
وكانت الدول العربية إما بحاجة إلى المال وسد عجز الميزانية الحكومية وإلى المساعدات المالية من الدول العربية الغنية، أو أنها كانت بحاجة إلى دعم أمني وسياسي واستراتيجي يحقق لها شكلاً من أشكال الأمن والدعم السياسي الذي كانت بعض الدول العربية تنشده، وبحاجة ماسة إليه. لذلك فقد كانت هناك حاجات متبادلة إما اقتصادية أو أمنية واستراتيجية وحاول كل طرف الادعاء بأنه يقدم ما يحقق له شكلاً من أشكال الدعم المباشر للدولة الأخرى، في اعتماد مميّز ومتبادل.
خلال فترة التسعينيات، تغيّرت المعادلة العربية بعض الشيء، فمن ناحية أثبتت أكبر دولة عربية غنية مانحة للقروض والمساعدات الخارجية في ذلك الحين، الكويت، بأنها لم تنجح في ترجمة تراكمات دعمها السابق للدول العربية ذات الموارد المحدودة إلى دعم سياسي وعسكري واستراتيجي إبان أزمة احتلال جيش صدام حسين لبلادها. ولفترة خلال الحرب احتلّت القيم الدينية والثقافية والقبلية القديمة مكاناً بارزاً في نجدة الهاربين من الاحتلال إلى الدول العربية المجاورة، محل المعادلة القديمة: الدعم الاقتصادي مقابل الدعم السياسي والاستراتيجي.
وبعد الغزو الأميركي للعراق وبسط الولايات المتحدة الأميركية لنفوذها في المنطقة، خاصة في منطقة الخليج العربي، شعرت بعض الدول العربية بأن مظلة الأمن الأميركية قادرة على أن تكون بديلاً حقيقياً عن نظام الدعم الاستراتيجي القديم. وسمحت المظلة الأميركية بأبعادها الأيديولوجية الجديدة، وبوجود عوامل داخلية أخرى لبعض الدول العربية، بأن ترفض مبدأ الوصاية الذي كانت تمارسه عليها بعض الدول المجاورة، مثلما هو الوضع في الحالة السورية - اللبنانية. فبعد مقتل الحريري، شعر الكثير من اللبنانيين بأن الوجود العسكري السوري في لبنان لم يعد ضرورياً، فإما أنه غير قادر على حفظ السلام في ذلك البلد، أو أن بعض الفئات اللبنانية ربما استغلت ذلك الوجود لإلحاق الأذى بفئات أخرى.
ومع تباعد المواقف بين سوريا ولبنان اليوم، فإن هناك إحلالا لعلاقات جديدة يعاد بناؤها مع القوى الكبرى من قبل بعض الفئات والطوائف اللبنانية، لتصبح بديلاً للعلاقات القديمة مع دول الجوار والدول الإقليمية الأخرى.
ولكن الشيء المهم هنا ليس في لعبة الكراسي، فقد لعبت هذه اللعبة في لبنان لأكثر من قرن ونصف، وهي بالطبع لعبة سياسية تلعبها الدول، وتلعبها الفئات المسيّسة في الدول ذات السلطة السياسية المركزية المحدودة، المهم في اللعبة الجديدة هو دخول الشعوب والأحزاب السياسية في لعبة الأمم العربية. فالمظاهرات التي حدثت في لبنان ضد التواجد السوري، والمظاهرات التي حدثت في العراق ضد بعض الأحداث الإرهابية، والتي قيل بتورط بعض الإرهابيين فيها من الأردن، كلها تشير إلى نمط جديد من العلاقات الثنائية العربية تلعب فيها الجماعات دون القومية – الإرهابيون أو الجماعات شبه العسكرية، وكذلك الأحزاب، وكذلك رجل الشارع العادي دور البطولة.