تجري همهمات بين الحين والآخر تتحول إلى تصريحات لجس النبض ومعرفة رد فعل الرأي العام عن ضرورة إصلاح التعليم. بل وتنشر الصحف القومية وملحقاتها التعليمية الإصلاح المنشود الذي يركز كله على البرامج الدراسية وليس المناهج التعليمية. يركز الإصلاح على ضرورة جعل أكثر المواد اختيارية، وأقلها إجبارية. فحرية الاختيار مقياس التعليم الصحيح. وهي شرط التحول الديمقراطي، أحد متطلبات مشروع الشرق الأوسط الكبير. كما يركز الإصلاح على عدد سنوات الدراسة، حذفا لعام مرة وإضافة لعام مرة أخرى. وهي كلها تغييرات شكلية لا تتعرض لموضوع مناهج التعليم، وضرورة تجاوز التلقين والحفظ والنقل إلى مناهج النقد والتفكير الحر والإبداع. فمازالت غاية التعليم بالنسبة للنظام السياسي هي خلق المواطن المطيع وليس المواطن الصالح، المواطن الذي يسمع ويلبي دون أن يفكر أو يعترض، والمدرس بيده العصا حفاظا على النظام، لا فرق بينه وبين الشرطي الذي يمسك بعصا أغلظ لفض المظاهرات. وليس الهدف هو القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية التي أفرغت التعليم الوطني من مضمونه وخلقت تعليما خاصا موازيا في المنازل. فما يعطيه المدرس في التعليم العام مساو لأجره، وهو القليل. وما يعطيه في المنازل له أجر إضافي، وهو الكثير. فتحول التعليم المجاني وهو من مظاهر سيادة الدولة ومسؤولياتها لأن التعليم كالماء والهواء، تحول إلى تعليم مدفوع الأجر بطريق غير مباشر أو تعليم خاص بالعملة الأجنبية، ديني أو أجنبي، إسلامي أو مسيحي، وطني أم أجنبي، محلي أم دولي. تلك معارك جيل مضى، جيل الأربعينيات الذي ناضل من أجل مجانية التعليم ووطنيته، وجيل الخمسينيات الذي حقق مجانية التعليم الجامعي والتزامه بقضايا التنمية بعد الثورة المصرية في 1952.
والأخطر من ذلك الآن، وهو ما يتربص بهذا الجيل، بعد ما يزيد على نصف قرن من مخاطر قادمة، التعليم من أجل السوق بحجة القضاء على البطالة وتخريج فنيين مهرة قادرين على التعامل مع السوق في عصر العولمة. فالسوق هي القيمة الوحيدة وهدف التعليم العام من أجل خلق موظفين للشركات أو التعليم العالي لخلق محامين ومحاسبين ومنظرين للسوق مما يتطلب تعليما أجنبيا موازيا. حقوق بالفرنسية بجوار العربية. واقتصاد وعلوم سياسية بالفرنسية بجوار العربية. وتجارة خارجية "بالإنجلش" موازية للتجارة العربية وكأننا في عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب العربي، في تونس والجزائر ومراكش قبل التعريب. يتطلب السوق الموظف الكفء، والمدير القادر على التعامل مع شريكه الأجنبي والذي يعرف قوانين السوق. ومن ثم يتحول المواطن إلى آلة صماء كما تحول العامل من قبل فأصبح شيئا مثل الآلة والمتجر، أداة لقوانين السوق. فالتعليم مهنة وليس رسالة في حين أن اسم الوزارة المسؤولة "التربية والتعليم" أي تربية المواطن الصالح وتعليمه أو "التعليم الوطني" أي ارتباط التعليم بالوطن وبالأمة، بمصالحها وقضاياها. مهمته تربية الفكر النقدي، وعي المواطن بحقوقه قبل إلزامه بواجباته. فلا واجب إلا ويقابله حق. وهو الفكر الحر القادر على الجهر بالحق دون خوف من عصا المدرِّس أو هيبة الناظر. غايته تكوين المواطن الصالح وتأكيد المواطنة، المساواة في الحقوق والواجبات. فنقص الوعي بالمواطنة قد يفتت الأوطان في السودان والعراق ولبنان والخليج ومصر بل والمغرب العربي كله.
يركز إصلاح التعليم على الاختيار بين النظري الذي لا فائدة منه والعملي المفيد. الأول مثل كل المواد الاجتماعية، الفلسفة والمنطق وعلم النفس والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والسياسة. والثاني اللغات والحاسبات الآلية. الأولى علوم قديمة، والثانية علوم جديدة. مع أن التاريخ هو الذي يثبّت في المواطن وعيه التاريخي وانتسابه إلى أمة دون انتزاعه منها. والجغرافيا هي التي تجعله واعيا بالعالم المحيط به وتنمية موارده والوعي بنظام العالم المحلي والدولي كما هو الحال في الجغرافيا السياسية. ومبادئ الاقتصاد والسياسة هي التي تجعله يدرك قضايا العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل ونظام الأجور، والحقوق السياسية في الحرية والديمقراطية. والفلسفة هي التي تجعله قادرا على الفكر الحر بمعرفته بتاريخ المذاهب الفلسفية ودورها في نهضات الشعوب. والمنطق يعلمه مبادئ الفكر السليم ومناهج الاستدلال، واستنباط النتائج من المقدمات في ثقافة مازالت تسيطر عليها الخطابة والإنشاء أو الخرافة والسحر. وعلم النفس يجعله قادرا على سبر غور النفس البشرية بدلا من الإلهامات وانتظار المعجزات.
وللتمويه على الرأي العام يعرض الإصلاح المنشود على لجان من الخبراء التي قد تصل إلى الرأي المضاد فلا يؤخذ به لأن الأمر معروض على مجلس الوزراء أي على السلطة التنفيذية دون أهل الاختصاص. وتنشر بنوده في الصحف لمشاركة الرأي العام من أجل التمويه في حين أن القرارات مأخوذة سلفا، مفروضة من لجنة السياسات في الحزب الحاكم الذي تأتيه التعليمات من مشروع الشرق الأوسط الكبير. ودوره في الإخراج والتنفيذ. فأصبح "الإصلاح" كلمة حق يُراد