مع انعقاد أية قمة عربية كانت ترتسم الآمال والطموحات، ومنذ زمن لم تعد القمة حدثاً، بل لم يعد يُعرف لماذا تنعقد. البعض يقول إن مجرد انعقادها يكفي، والبعض الآخر نعاها كـ"مؤسسة" ودفنها، والبعض الثالث لا يزال يراهن عليها محاولاً نفخ الروح فيها، والبعض القليل الرابع لا يزال يغتبط لرؤية القادة العرب مجتمعين على رغم ما بينهم من خلافات، والغالبية أخيراً الصامتة أو الناطقة لم تعد تبالي.
لمن يؤرخ للقمم منذ ولادة الجامعة العربية، فقد أصبح عمرها ستين عاماً، وقمة الجزائر التي تفتتح اليوم رقمها 17 في القمم العادية و23 في إجمالي عدد القمم، ما يعني أن انعقادها تعذر أو تعثر أو تعطل خلال أكثر من عمر الجامعة. ولهذا أسباب قلّ ما يجري التطرق إليها، لكن الجميع يعرف أن السنوات العجاف هي سنوات خلاف وتنابذ. ينبغي الاقتناع بأن القمة استمرت ودافعت عن بقائها لأن الدول وقادتها لا يزالون يلبون الدعوة، ويتواعدون على هذا اللقاء. لكنها تحولت مع الوقت إلى بيان ختامي سينساه معظمهم بعد التقاط الصور التذكارية. حتى أن كثيرين من المراقبين غير العرب صاروا يعتقدون أن العرب يعتبرون القمة واجباً شبه اجتماعي ولا يحملونه أكثر مما يحتمل. فلكل منهم سياسته وارتباطاته التي يديرها يوماً بيوم، غير آبه بما إذا كانت تطابق أو تراعي ما أقرّته القمة، ثم إن أحداً لا يلوم أحداً أو يسائله، لأن هذا غير وارد في تقاليد "مؤسسة القمة".
من الطبيعي أن لقاء يستقطب اثنين وعشرين زعيماً عربياً لابد أن يجتذب عشرات وأحياناً مئات الإعلاميين الذين يساهمون أكثر في جعله يبدو كأنه حدث. لكن المذهل أن الخبر اليقين ليس في أروقة القمة واجتماعاتها، إنها مجرد نتيجة لاتصالات تكون قد سبقتها. لذلك لم يخفِ أحد الديبلوماسيين الأميركيين مرة ابتسامة خبيثة، بعدما سأل زائره الصحافي هل سيذهب لتغطية القمة وأجابه بنعم، عندئذ قال له الديبلوماسي: إنني أقرأ مسودة البيان الختامي وسأضع ملاحظاتي. حاول الصحافي معرفة المزيد، واكتفى الآخر بالقول: طلبنا من بعض الأعضاء تضمين البيان أفكاراً معينة، سنرى إذا كانوا نجحوا في تمريرها، وإذا لم يفعلوا سنحاول ثانية. لم تعد هذه المهمة بالصعوبة التي كانت عليها قبل سنوات، بل إن اقتراحات الأميركيين أصبحت تمرر على مستوى الزعماء أنفسهم وليس بواسطة الوزراء أو الخبراء. وكما أن الرقيب يسكن رأس الصحافي، حتى غدا رقيباً ذاتياً، كذلك أصبح العديد من البنود في القرارات العربية، في القمة أو في اجتماعات الوزراء، يخضع لرقابة ذاتية أميركية.
تتساوى في ذلك قرارات أعلنت وأخرى لم ترَ النور، فما لم يعلن منها يقال اعتباطاً إنه لم يحظَ بتوافق، والواقع أنه جرى التخلي عنه لئلا تقع عليه سطوة الرقابة. ولو جرى تحليل "القرارات" - كما تسمى- المتعلقة بفلسطين والعراق في القمم الأخيرة، لأمكن تصوّر آلية التدخل والضغوط. وهكذا اختصر كل شيء في حذاقة الصياغات، وليس مهماً أن تعبر عن إجماع عربي، المهم أن تكون "مقبولة" وأن تمرّ بلا متاعب.
والأغرب أن "مؤسسة التدخل" في "مؤسسة القمة" وقراراتها ما لبثت أن استوظفت مع الوقت سعاة ومقاولين، بل إن هؤلاء صاروا يتنافسون ويتسابقون قبيل كل قمة لاستدراج العروض والاقتراحات ويتعهدون إنجازها، مما اضطر المتدخلين إلى توزيع أفكارهم قطعاً قطعاً للحفاظ على الزبائن وأيضاً لاختبارهم. فهناك زبائن لم يحسنوا التصرف وأصبحوا مكشوفين فجرى التخلي عن خدماتهم مؤقتاً أو نهائياً. وهناك آخرون صاروا معروفين بكونهم معتمدين رسمياً، أي أنهم إذا نطقوا فإنما يفعلون بتكليف، لذا يحسب لهم حساب، لأنهم سيكتبون "تقارير" إلى من يلزم. وقد فوجئ العديد من الزعماء والوزراء بمن يذكرهم أحياناً بما قالوه في جلسة يفترض أنها "سرية".
لذلك تحولت القمم إلى جلستين للافتتاح والختام، تتخللهما لقاءات ثنائية في انتظار الانتهاء من الصياغات. وأحياناً تتعثر هذه بعبارة يصار إلى تنقيلها بين الوفود حتى إذا استعصى قبولها بذلت محاولات جديدة لتليينها أو لإفراغها من أي مضمون، وعندئذ إما أن تمر أو أن يستغنى عنها كلياً. وليس الأمر مهماً فما هي إلا مجرد صياغة، أما السياسات الحقيقية فتمارس بعيداً عن القمة.