ليس ثمة شك في أن النموذج المجتمعي الذي نصدر عنه اليوم، صراحة أو ضمنا، عندما نتحدث عن "المجتمع المدني"، هو النموذج الليبرالي الأوروبي الذي يشكل النظام الرأسمالي هيكله ونسيج علاقاته. وبعيدا عن الطرح الإيديولوجي - مع أو ضد الرأسمالية- فإنه من الضروري استحضار الظروف والملابسات التي ظهر فيها ذلك النموذج وكذلك الظروف والملابسات الجديدة التي يستمد منها اليوم قوته وفاعليته، إن لم يكن وجوده ذاته.
ودون الدخول في تفاصيل ومقارنات بين ظروف أوروبا الغربية، ظروفها المحلية والدولية، وبين ظروف العالم العربي، وهي تفاصيل ومقارنات تكرر القول فيها من جانبنا ومن جانب غيرنا، فإنه من الضروري كذلك استحضار "التجارب الليبرالية" التي عرفتها وتعرفها بعض الأقطار العربية. ومع أنها تجارب قصيرة ومحدودة فإنه من المهم إبراز مساراتها وخصائصها العامة للتعرف على معوقاتها وعوامل فشلها.
فعلا، لقد كانت هناك حياة ليبرالية، سياسية واقتصادية، وكانت هناك براعم مجتمع مدني - في طور التأسيس على الأقل- في كل من مصر وسوريا قبل منتصف الخمسينيات، وفي كل من المغرب وتونس بعدهما، ومع ذلك لم تحظ تلك البراعم لا بالاعتبار ولا بالرعاية بل ولا بالمهادنة من طرف القوى الغربية. لقد نظرت إليها هذه القوى على أنها براعم وطنية تهدد، بنشاطها وبقدرتها المحتملة على التنافس، مصالح الدول المستعمرة لها بالأمس، ومن ثم سلكت هذه إزاءها تلك السياسة التي عرفت في ذلك الوقت بـ"الاستعمار الجديد"، سياسة تقوم على قمع تلك البراعم والتضييق على أية قوى إصلاحية مهما كان أصلها ومنزعها وبالمقابل تنصيب حكام "أصدقاء" وعملاء. وكانت النتيجة خنق تلك البراعم الأولية التي كانت تبشر بالتصنيع والإصلاح الزراعي وتشييد مجتمع مدني. وقد استعملت الدول الغربية الاستعمارية في ذلك وسائل متعددة، منها الدفع إلى القيام بانقلابات عسكرية، ومنها بعث الحياة في القوى التقليدية العتيقة، القبلية منها والطائفية، والتحالف مع قوى إسلامية باسم مقاومة الشيوعية... إلخ. وإذا كان بعض الانقلابات العسكرية قد تطور إلى "ثورات" تحريرية وطنية فإنها ما لبثت أن وجدت نفسها محاصرة من طرف "الاستعمار الجديد" في كل مجال، الشيء الذي أجهض مشاريعها وطموحاتها.
ومهما كان تقديرنا لدور هزيمة الجيوش العربية في فلسطين سنة 1948، ومهما كان تقديرنا للوضع الداخلي في كل من مصر وسوريا، فإن دور النظام الدولي الذي يحكمه النزوع الإمبريالي الاستغلالي للدول الكبرى، دور أساسي في فشل التجارب الليبرالية العربية. لقد خنق هذا النظام براعم البرجوازية الوطنية العربية الناشئة، وفرض عليها أنماطا من السلوكيات ورسخ تهريب رؤوس الأموال والفعاليات البشرية ومنع تصدير التكنولوجيا إليها، مما أدى إلى عجز النخبة العصرية الليبرالية عن هيكلة نفسها، وتجذير وجودها بممارسة الهيمنة الاقتصادية والثقافية، وتقديم حلول حقيقية ومتنامية للمشاكل الاجتماعية والوطنية المطروحة، وبالتالي فرض مشروعها التحديثي على المجتمع كله.
وبعيدا عن تأثير هزيمة الجيوش العربية في فلسطين عام 1948، وبالتالي بعيدا عن عصر "الثورة" و"عصر الإيديولوجيا" في العالم العربي، كانت هناك تجربتان متقاربتان: تجربة المغرب الذي بقي يتبنى الليبرالية منذ استقلاله في منتصف الخمسينيات من جهة، وتجربة مصر منذ عهد السادات من جهة أخرى. ومع أن مصر قد عانت أحيانا من التطرف الذي يمارس العنف باسم الدين، فإن الغرب الديمقراطي بشقيه -أوروبا والولايات المتحدة الأميركية- لم يعمل لحد الآن ما يستحق الذكر في مجال تشجيع القوى العصرية والليبرالية في مصر. لم يعمل على مساعدتها مساعدة جدية لبناء هياكل اقتصادية قادرة على مواجهة متطلبات المجتمع، رغم ما يعرفه من أهمية مصر الاستراتيجية بالنسبة له.
وأما بالنسبة للمغرب، فإن كل ما جرى في جزائر التسعينيات من هيمنة القوى الدينية من جهة، وتدخل العسكرتارية من جهة ثانية، والسقوط في أتون حرب أهلية لا لون لها ولا طعم، غير الثأر للثأر، من جهة ثالثة، لم يدفع الغرب إلى التفكير الجدي في تنمية التجربة الليبرالية المغربية ومساندتها مساندة تساعدها على النجاح، حتى تقوم كنموذج ومثال في المنطقة، أو على الأقل حتى تقف صامدة أمام مد أصولي متطرف محتمل، خصوصا بعد أن هيمن هذا المد على المجتمع في الجزائر هيمنة شبه مطلقة، وأثبت حضوره القوي في كل من تونس وليبيا وموريتانيا.
إن الغرب إذن لم يساعد – طوال الخمسين سنة الماضية- النخبة العصرية، الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، على غرس مشروع ليبرالي ديمقراطي حقيقي في الأقطار العربية المؤهلة لذلك. بل إن سياسته قد اتجهت، بالعكس من هذا، إلى البحث له عن مواقع داخل التيارات السياسية الإسلامية، حتى يضمن لنفسه الحفاظ على مصالحه عندما تستولي تلك التيارات غداً على السلطة (موقف الولايات المتحدة الأميركية من جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، واستقبال بريطانيا لزعماء الحركات الإسلامية والسماح لها بالحركة