إن المؤشرات الدالة على تخفيف الضغوط الأميركية فيما يتعلق بتهديدات عسكرية ضد إيران، أحد أعضاء "محور الشر" كما وصفها الرئيس الأميركي قبل أربعة أعوام من الآن، قد تبرهن على أنها مجرد كذب. ولكن ما زال من المفيد ملاحظة العناصر الرئيسية التي تشكل السياسة التي ينتهجها اللاعبون المتنفذون في الساحة العالمية. فالحكمة التقليدية القديمة لا زالت تفرض علينا أن نصدق أن إيران تعمل بكل ما في وسعها لإنتاج الأسلحة النووية في انتهاك صارخ لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، ولكن الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك.
ربما يتذكر البعض أن الولايات المتحدة كانت قد أعلنت عن سياسة "الاحتواء المزدوج" ضد إيران والعراق. ولكن أحداث هجمات الحادي عشر من سبتمبر والحرب على أفغانستان في عام 2001-2002 قد أدتا فيما يبدو إلى التخلي عن سياسة الاحتواء لصالح التعاون الوثيق وإن كان قصير المدى ما بين الولايات المتحدة وإيران من أجل إلحاق الهزيمة بجماعة "طالبان" وإعادة الاستقرار إلى أفغانستان. ولكن اكتشاف النشاط النووي وتدفق المواد النووية والتكنولوجية من باكستان إلى إيران واحتمال انهماكها في إنتاج قنبلة نووية قد فاقمت من تدهور هذه العلاقات بدرجة كبيرة. والغريب أن كلاً من إيران وباكستان كانت تقف في خط المواجهة في الحرب ضد "طالبان" وأسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة".
إلا أن ما يعتقد أنه أخطر عملية في التاريخ لانتشار الأسلحة النووية من باكستان (إلى كل من ليبيا وكوريا الشمالية وإيران وربما إلى دول عديدة أخرى) قد أثار حفيظة واشنطن وبدأت في تشديد ضغوطها على إيران بمجرد أن تواترت المعلومات عن تملكها لمواد نووية وانهماكها في عمليات التخصيب. وطوال أربعة أشهر أخذت التهديدات العلنية والسرية بشن الحرب على إيران يتردد صداها في الغرب بصورة عامة وفي الولايات المتحدة بشكل خاص. أما إيران فقد بدأت تكثف من استعداداتها لمثل هذا الهجوم وشرعت في إجراء تمارين وتدريبات عسكرية تشمل حتى الهجمات الانتحارية على الغزاة. وبات من المحتمل أن أي هجمة جوية ستفضي إلى رد فعل إيراني بالصواريخ الباليستية مما تنجم عنه آثار سياسية وسيكولوجية بالغة، وإن كانت هذه الصواريخ لا تحمل سوى رؤوس حربية تقليدية. ولكن من الواضح أن الولايات المتحدة قد آثرت الانحناء أمام العاصفة ولو إلى حين بسبب أوضاعها في العراق وعدم تمكنها من شن حرب أخرى ضد إيران على الرغم من وجود قواتها أصلاً في مناطق قريبة من الحدود الإيرانية. وفي ظل وجود قوات يصل حجمها إلى 150.000 جندي في العراق فإن الجيش الأميركي لم تعد لديه قوات احتياطية كافية لشن حرب أخرى ستكون أكثر شراسة من سابقاتها. وفي نفس الوقت كانت التقارير تتواتر أيضاً بشأن الجيش الأميركي وضلوعه في انتهاكات وحشية لحقوق الإنسان في أبوغريب والعديد من الأماكن الأخرى في مؤشرات واضحة على أن هذا الجيش يقع تحت ضغوط هائلة.
ومع افتتاح بوش لفترته الثانية بفريق أجري عليه الكثير من التعديلات فقد شرع في إصلاح علاقاته مع فرنسا وألمانيا وبعض الدول الغربية الأخرى في القارة الأوروبية التي وصفت سابقاً بـ"أوروبا القديمة" إبان الخلافات والتشققات في الحلف الغربي أثناء شن الغزو على العراق. والآن فقد بدأت تلوح في الأفق تباشير تعزيز العلاقات مع روسيا بوتين وبخاصة عندما قامت وزيرة الخارجية الجديدة بزيادة إلى هذه العواصم في الأسابيع الأخيرة. ولكن التقارب بين جانبي الأطلسي من الصعب أن يمضي قدماً بدون تقارب في الأفكار والسياسات المتعلقة بالعراق وإيران والنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني بالإضافة إلى مشكلة رفع الحظر الأوروبي على تصدير الأسلحة إلى الصين. وبات من المتوقع أن تمارس فرنسا وألمانيا مزيداً من الضغوط بشأن التوصل إلى آلية مشتركة لاتخاذ القرار حتى في المسائل التي توافقان على التعاون بشأنها.
لقد دخلت دول الاتحاد الأوروبي الثلاث (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) حتى قبل ظهور المشكلة النووية في مفاوضات تجارية وتكنولوجية مع إيران التي تعتبر أكبر شريك تجاري لها في المنطقة. واستمرت هذه الدول أيضاً تفاوض بهدف إيجاد حل دبلوماسي قبل أن يتم التوصل إلى بعض الاتفاقيات. وعلى العكس من ذلك فقد استمرت الولايات المتحدة لا تألو جهداً في جلب ملف البرنامج الإيراني النووي إلى مجلس الأمن عن طريق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على أساس عدم التزامها بنصوص الاتفاقية مما يفتح الأبواب لتطبيق عقوبات مشددة بالإضافة إلى إمكانية استخدام القوة العسكرية ضد إيران. ولكن هذا الهدف يبقى صعب المنال نظراً لأن الصين التي أبرمت اتفاقية بمبلغ 70 مليار دولار للاستثمار طويل الأجل في قطاع الطاقة الإيراني في نوفمبر الماضي ستقف حجر عثرة أمام إمكانية إرسال هذا الملف إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة، مما يوفر مؤشرات على أن بكين ستقف ضد استخدام القوة وهي تبعث برسالة بأنها يمكن أن تستخدم حق الفيتو لإجهاض مثل هذا المشروع حال عرضه على مجلس الأمن.
وفيما يشبه تكراراً للأحداث الت