لقد تمخضت الجولة التي قامت بها مؤخراً "كوندوليزا رايس" وزيرة الخارجية الأميركية إلى جنوب آسيا، عن قصة إخبارية مثيرة، مفادها أن دوائر صنع القرارات والسياسات في واشنطن، تبحث الآن، إمكانية إرسال عدد من طائرات "F-16" المقاتلة إلى باكستان. وتبدو هذه القصة كما لو كانت كسراً لحلقة الحوار الدائر منذ مدة حول هذا الأمر. ففقد تكررت مراراً الحجج المثارة ضد خطوة كهذه منذ عقد التسعينيات. وبموجب تعديل قانوني كنت قد كتبته خلال الفترة نفسها، جرى إبطال صفقة عسكرية مع باكستان، تضمنت إرسال 28 طائرة حربية مقاتلة إليها. ولكن المؤسف أن تنفيذ صفقة شبيهة، بات محتملاً هذه المرة. صحيح أنه قد جرى الإعلان عن باكستان حليفاً لنا في "الحرب على الإرهاب"، وأننا قدمنا إليها دعماً عسكرياً مهولاً خلال الفترة الماضية. غير أنه لا علاقة البتة، لطائرات "F-16" بالحرب على تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". فما الذي يحيط بهذه الصفقة إذن؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال، في استمرار انحراف سياسات واشنطن إزاء كل من الهند وباكستان، لمدى عقدين كاملين من الزمان.
والحقيقة هي أنه لا يزال علينا اتخاذ موقف واضح وصلب إزاء انحيازنا ووقوفنا إلى جانب الهند. ذلك أن الهند دولة ديمقراطية، لها سوقها الحر وذات نظام على درجة من الرقي والتطور فيما يتصل باحترام حقوق الإنسان، وفي إمكانها أن تكون حليفاً قوياً لنا في منطقة شرقي آسيا، ضد الصين. كما تتسم الهند بأن لها أقلية مسلمة كبيرة، فضلاً عن سيادة ثقافة التسامح الديني والاجتماعي فيها. كما أن لنا مصالح تجارية ثنائية مشتركة مع الهند، هي التي ظلت تعيننا على المحافظة على تقدمنا التكنولوجي. وللمزيد من الوضوح، فإنني أعلن وقوفي إلى صف شركات التكنولوجيا المتقدمة، وبالتالي وقوفي إلى جانب "شركة الهند للبرامج التشغيلية".
بالمقارنة مع الهند، فإن باكستان تعد دولة ذات سجل سيئ في مضمار حقوق الإنسان والتسامح الديني. كما أنها ضبطت متلبسة في أكثر من مرة، بتسويق وبيع المواد النووية الخطيرة لألد أعدائنا وأكثرهم تربصاً بنا. وفي الوقت الذي تدعي فيه باكستان، معاونتنا في "الحرب على الإرهاب"، فإن الكثير من التقارير الاستخباراتية الواردة منها، تشير إلى أن معظم الأموال والمساعدات السخية التي تتلقاها منا، إنما تنفق في الأساس، على تعزيز سطوة النظام الحالي. صحيح أن الهند كانت تقف إلى جانب الاتحاد السوفيتي طوال سنوات الحرب الباردة، بينما ظلت باكستان إلى جانب الولايات المتحدة بالمقابل. ولعل هذا هو السبب، الذي يدفع البعض في "البنتاجون" للاعتقاد بأنه لا يزال علينا أن نكافئ باكستان على ذلك الصنيع. غير أن الحرب الباردة قد أسدل عليها الستار منذ مدة ليست بالقصيرة. وخلال تلك الفترة، فقد كافأنا باكستان على كل "جمائلها" علينا، بل فعلنا ذلك مرات عديدة في واقع الأمر.
وطوال الفترة الممتدة من عقد السبعينيات وحتى منتصف عقد التسعينيات، حذرت مراراً عندما كنت عضواً في لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، من بيع باكستان للمواد النووية لدول عديدة. وفي غضون ذلك، أغمضت الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة عينيها عن تلك التحذيرات، وكأنها لم تكن. بل هناك من حرض بعض كبار قادة أجهزتنا الاستخباراتية، بالترويج لما يشير إلى أنني لم أكن لأعي حتى ما أقول. ولكن ها هي صحة ما كنت أردد وأقول، تتكشف الآن، وعلى نحو أكثر خطراً وإثارة للقلق، مما كنت أقوله. وإنني لعلى اعتقاد بأن مؤسستنا الصناعية العسكرية، ظلت دائما أكثر ميلاً وتفضيلاً للتعامل مع باكستان، أكثر من تعاملها مع الهند، ليس بسبب أن باكستان على استعداد مستمر لشراء الأسلحة فسحب، وإنما أيضاً لأن هذه المؤسسة، تفضل التعامل مع الديكتاتوريات، أكثر من عقد الصفقات مع الدول الديمقراطية. فحين يطير مسؤول عسكري رفيع المستوى من "البنتاجون" إلى باكستان، فإن كل الذي عليه القيام به، هو مقابلة ديكتاتور واحد هناك لعقد وإبرام كل الصفقات المتوقعة، وينتهي الأمر. أما حين يسافر المسؤول نفسه إلى دولة ديمقراطية مثل الهند، فسيكون عليه أن يتحدث إلى رئيس الوزراء أولاً، ثم البرلمان، وصولاً إلى الصحافة الحرة.
في لقائها الأسبوع الماضي مع القادة الباكستانيين، أعربت "كوندوليزا رايس" عن أملها في أن تمضي المسيرة الديمقراطية هناك قدماً، وصولاً إلى إجراء الانتخابات العامة، المقرر عقدها في عام 2007. غير أنها لم تطالب من جانبها، كما لم تعط أية تأكيدات أو ضمانات من الجانب الباكستاني، على إجراء تلك الانتخابات، أو فيما يتصل بصيانة واحترام حقوق الإنسان، ولا حرية الصحافة. ومع أن "رايس" أثارت موضوع نشر الأسلحة النووية ومخاطر المتاجرة بالمواد النووية، إلا أن ذلك تم على نحو عرضي وروتيني لا ينم عن الجدية اللازمة في التعامل مع هذا الأمر. إلى ذلك، كان الرئيس بوش نفسه، قد استضاف الرئيس الباكستاني الجنرال "برويز مشرف" في منتجع "كامب ديفيد" عام 2003، ولكن فيما يبدو فإنه لم يعرض حتى