كثيراً ما يتردد أن لدينا أزمة في صناعة الجيل الذي نتطلع إليه لصناعة الحاضر والمستقبل. والحقيقة أنه قد تم تناول هذه القضية الاستراتيجية بالمناقشة والكتابة والتنظير، لكن دون الاتفاق على حلول ناجعة، ولا يزال الجدل يدور حتى بعد أن بحّت الأصوات وتعبت الحناجر وجفت الأقلام. فالمستجدات المتواصلة تكشف زيف الشعارات التي رفعها البعض التي لا يقصدون منها إلا تحقيق أهداف ومنافع شخصية، ضاربين عرض الحائط بالمقدرات الوطنية وكافة المثل والمبادئ التي ناضل أجدادنا وآباؤنا من أجل تحقيقها، وكان الأجدر بهم أن يتركوا مواقعهم لعقلاء القوم الذين يملكون حقاً وحصة في عملية صناعة الحاضر وبناء المستقبل، ويجدون في أنفسهم الكفاءة التي يشهد لهم بها الآخرون في دفع الأمور قدماً نحو آفاق طالما تطلع إليها الذين يحبون أوطانهم، ويتفانون في خدمتها في ساحات البناء والتنمية والتقدم. لكن أولئك ممن قذفت بهم الأقدار إلى مواقع لا تتناسب مع قدراتهم، ولا يملكون من فنون الأداء ما يمكنهم من خدمة الأهداف الوطنية السامية، لا يجدون إلا وضع العراقيل أمام الفئة المخلصة التي يستهويها العمل لتحقيق الأهداف التي خطها لنا جيل الآباء والأجداد. ولنكن صريحين مع النفس ومع مجتمعنا ونعترف بأن الأزمة فينا وليس في غيرنا، فنحن الذين لم نعمل على كشف معدن هؤلاء الذين انصرفوا لخدمة ذواتهم، وهم لا يتقنون إلا فنون الكلام المنمق، ولا يعرفون إلا حبك الدسائس والمؤامرات وصناعة "الشللية" التي لا تسعى إلا إلى القيام بالمصالح المتبادلة، وكيفية تسخير المنصب لخدمة المصلحة الذاتية بعيداً عن مجرد التفكير بأن الوطن بحاجة إلى رجال ونساء يقسمون في رحابة على الولاء له ولقيادته التي ضربت المثل في التفاني لخدمة المواطن، وبذلت الكثير في سبيل صناعة الإنسان الجديد بالعقل الجديد. وإذا كان البعض في هذا الوطن الغالي قد قرن جيبه بمسؤوليته فإنه وللأسف ليس منا حيث إنه وضع قلبه وعقله في مكان آخر لا يمت لهذا الوطن وآماله بصلة. أقول هذا وأنا أنظر للحق بعين وبالأخرى على الحقيقة، فمن حق الوطن علينا أن نتسامى فوق الأنانية والذاتية فقد أعطانا هذا الوطن الكثير ومن حقه علينا أن نبادله العطاء، فالمهمة مقدسة ولا تقبل بأقل من التفاني في البذل والإخلاص في العمل ووضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. أقول هذا في معرض تعاملي مع حقائق الحياة والعمل، ومع ذلك فإن تطلعي لمستقبل أفضل لهذا الوطن يدفعني إلى مناشدة الضمائر بأن ترتفع فوق التوجس والانكفاء على الذات، ففي الوطن متسع للجميع وفي العمل ساحات واسعة تستوعب مشاركات الجميع والذين يقع عليهم أن يوحدوا جهودهم فيد الله مع الجماعة. لقد أدت تراكمات الأيام وتعدد الأخطاء إلى بروز فئات نسيت فيما يبدو أن هناك ما هو أسمى من الذات، فربطت بين مصالحها ومصالح الوطن وعليه فإن دعوتي إلى صناعة الإنسان الجديد إنما تتمثل في ذلك الإنسان الذي صنع ماضينا المجيد. وما دمنا جميعا أبناء هذا الوطن العزيز فإننا مطالبون بأن تسود أواصر المحبة وروح المسؤولية سلوكنا وبهذا فقط يمكننا أن نصل إلى ما نبغيه، ونفاخر بأعمالنا شعوب الدنيا فيسمو الوطن أكثر فأكثر ونحقق له ما يستحقه من مكانة اكتسبها بفعل نضال الآباء والأجداد وبفعل القيادة الحكيمة لآل نهيان. إن دعوتي لإطلاق حركة صناعة الإنسان الجديد بالعقل الجديد تعني بالضرورة أن نبدأ بإعادة النظر في التربية ومعاهد التعليم والتدريب وربط ذلك كله باستراتيجية واضحة المعالم، تعيد صياغة الإنسان وفق الأهداف الوطنية العليا على أن يتوازى ذلك بعملية شمولية تشارك فيها كافة المؤسسات باتجاه تغيير المجتمع بما يتلاءم وروح العصر، ونفتح الباب أمام الأمل الجديد في صناعة الإنسان الجديد بالعقل الجديد. وحين تكون هناك بدايات صادقة وجريئة فإن النهايات تأتي في حجم التوقعات، وبالتالي نضمن لأنفسنا أن نكون فاعلين ويكون المجتمع قد ضمن لنفسه فسحة كبيرة في بناء التاريخ المعاصر والمشاركة في تاريخ المستقبل.