نظرا لأننا نقترب من موسم ترشيحات جائزة نوبل للسلام، فإنني أود ترشيح الزعيم الروحي لشيعة العراق، "علي السيستاني" لنيل جائزة هذا العام. وأنا جاد فيما أقول.
فإذا ما أسفر الوضع في العراق عن محصلة لائقة، فإن الفضل الحقيقي في ذلك سيكون للرئيس بوش، الذي لاشك في أنه سيتلقى وقتها اعترافا بفضله، بسبب الدور الذي قام به في إتاحة الظروف للتحول الديمقراطي في العراق، من خلال إقدامه على إطاحة صدام حسين.
ونحن نميل عادة للحديث عما يجري في العراق كما لو كنا السبب الوحيد في كل ما تحقق هناك، أو كانت أفعالنا هي التي أدت إلى ما نراه أمامنا الآن في ذلك البلد، في حين أنه إذا ما قدر لديمقراطية من أي نوع أن تتجذر في هذا البلد، فإن الفضل في ذلك يجب أن ينسب أيضا إلى السجايا الفطرية، وتوجيهات قائد الجماعة الشيعية العراقية البارز علي السيستاني.
فالسيد السيستاني هو الذي أصر على ضرورة إجراء انتخابات وطنية حرة في العراق، رافضا المقترح الأصلي الغبي، الذي تقدمت به الولايات المتحدة، بعقد ما يعرف بمؤتمرات الأحزاب في الأقاليم العراقية المختلفة.
والسيد السيستاني هو الذي أصر على عدم تأجيل الانتخابات بسبب التمرد البعثي- الفاشي. وهو الذي أصدر أوامره للشيعة بعدم الرد على محاولات البعثيين، الهادفة لجرهم إلى حرب أهلية، من خلال شن هجمات على المساجد الشيعية، وذبح المدنيين الأبرياء من تلك الطائفة.
ويمكن القول إن السيستاني - من عدة نواحٍ- قد لعب دورا لمصلحة جورج دبليو بوش، يعادل الدورين اللذين لعبهما كل من "نيلسون مانديلا"، و"ميخائيل جورباتشوف" لمصلحة والده "جورج إتش. دبليو. بوش".
إن الإلهام وفن القيادة اللذين أظهرهما "نيلسون مانديلا" أثناء عملية التحول من حكم الأقلية البيضاء إلى حكم الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا بأسلوب سلمي ودون عنف، هو الذي ساعد إدارة جورج بوش الأب وحلفاءها على إيصال تلك العملية إلى بر الأمان. كما أن إصرار "ميخائييل جورباتشوف" على جعل عملية تفكيك الإمبراطورية السوفيتية، وخصوصا في ألمانيا الشرقية تتم من دون عنف، هو الذي ساعد الاتحاد السوفيتي على إنجاز ذلك التحول بسلاسة أيضا.
ففي مجال العلاقات الدولية كما في مجال الرياضة، يعتبر الحظ في معظم الحالات أفضل من الشطارة. فعندما تمتلك دولة مثل الولايات المتحدة الحظ، الذي يجعل التاريخ يهديها أشخاصا كـ"مانديلا" أو "جورباتشوف" أو "السيستاني" في منعطف تاريخي خطر، بدلا من أن يهديها أشخاصا على شاكلة ياسر عرفات أو "روبرت موجابي"، فإن ذلك الحظ هو الذي يحدث كل الفرق في سياساتها، ويجعلها تبدو ذكية وبارعة، أو تبدو عديمة الجدوى.
علاوة على ذلك، نجد أن السيد السيستاني قد ساهم بثلاثة عناصر حاسمة في مجرى الحركة الديمقراطية في العالم العربي الكبير.
العنصر الأول، أنه لم يبن شرعيته على مؤهلاته الدينية والفقهية فقط، ولكن على سياساته التي تقوم على بناء عراق للعراقيين. بمعنى آخر، وحسبما يقول "ستيفين بي. كوهين" الخبير في شؤون الشرق الأوسط :"إن السيستاني لم يبن سياساته على أساس نفي الآخر".
نعم هذا ما فعله السيستاني، الذي لم يكن كصدام حسين الذي بنى سياساته على أساس نفي أميركا وإيران وإسرائيل، أو ما فعله ياسر عرفات الذي بنى حياته كلها على أساس نفي الصهيونية، ولم يتحدث إلا في القليل النادر عن تطوير الاقتصاد الفلسطيني، أو تطوير التعليم الفلسطيني.
إن سياسات النفي لها تاريخ ممتد وعريض في الشرق الأوسط، لأن العديد من القادة هناك ليسوا شرعيين، ومن ثم فإنهم يكونون دائما بحاجة إلى نفي شخص ما كي يبرروا سيطرتهم على الحكم.
إن الشيء المشترك بين السيد علي السيستاني، ورئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، هو أن ثلاثتهم قد صعدوا إلى السلطة من خلال التركيز على أجندة إيجابية لشعبهم، وليس على أساس نفي الآخر.
العنصر الثاني الذي أدخله السيستاني، هو وضع الشعب العراقي وتطلعاته في قلب العملية السياسية العراقية، بدلا من وضع نخبة ضيقة، أو رجال دين ينصبون أنفسهم (كما في حالة إيران على سبيل المثال)، وهو تحديدا الشيء الذي نظمت من أجله الانتخابات العراقية. وبقيامه بذلك، فإن السيستاني ساعد على إضفاء الشرعية على "سلطة الشعب"، في منطقة لم تكن تسمع عن مثل هذا الشيء من قبل.
ولم يقتصر هذا على العراق فقط. ففي بلدان أخرى مثل لبنان ومصر وفلسطين - حيث أعلنت "حماس" مؤخرا أنها ستشارك في الانتخابات التشريعية، فإننا نجد أن صناديق الانتخابات والدعم الشعبي - وليس البنادق فقط- هي التي تظهر الآن علامات تثبت أنها في طريقها لأن تصبح المصدر الحقيقي للشرعية.
العنصر الثالث الذي قام به السيستاني - ولعله الأهم- أن الرجل قد أدخل في السياسات العربية تفسيرا شرعيا براجماتيا للإسلام.. تفسيرا يقول إن الإسلام يجب أن يكون رافدا من روافد السياسة والدستور، ولكن رجال الدين يجب ألا يتولوا الحكم بأنفسهم.
إن عملية دمقر