كم كانت الكتابة عن بيروت وأنت بعيد عنها أسهل، تسمع وتقرأ وتشاهد وتحلل أو تُنظر، تحاول أن تسنتسخ الحالة، لكنها تبقى نسخة.
أن تعيش في بيروت هذه الأيام، تنبض بنبضها وتستنشق حزنها وتعتصر مع دموعها وترتبك مع انتفاضتها وتصرخ مع كل بشرها صرخة للحرية والحقيقة والوحدة الوطنية، أن تكون وسط هذا الكل وترتكب هذه الأفعال... شيء مختلف.
المشهد الأول: كان أول ضريح وآخر ضريح تزوره في بيروت ضريح الأب، في المطار وبعد منتصف الليل كان السؤال الأول: ألا تريدين زيارة "الضريح" قبل التوجه إلى البيت؟
أمام مسجد محمد الأمين ضريح اختصر كل الأموات والشهداء في لبنان. الكل هناك، الكل يدعو لغيّابِه وللغائب الكبير، الكل يبكي موتاه... والشهيد ورفاقه، الكل يخرج من المكان، مشلول الفؤاد، كأن بوصلة حياته أصيبت بمس، عندما وقف أمام مشهد اليمام الأبيض يرقص على ضريح مطرز بالورد، محاولاً تصور رفيق الحريري راقداً هناك. تتوقف البوصلة عندما يدرك الواقف بخشوع أن ذلك المغمور بتراب بيروت هو البلد، وأن الذي انفجر وتمزق واحترق وتطايرت أشلاؤه على الشرفات البحرية كان الأمل الحقيقي بقيامة وطن.
المشهد الثاني: وسط مليون ونصف المليون آدمي، لا تعرف من أين أتوا... لكنهم وصلوا، براً وبحراً، مشياً، وبسياراتهم ودراجاتهم، أطفالهم على أكتافهم. الضرير منهم ممسكاً بالمبصر، والكسيح على كرسيه المتحرك المزين بالأعلام والغني حاملاً "الموبايل"، والسيجار غير ممانع بإمساك يد فقير لم يبقَ له سوى الكرامة فأتى يقاسمها ابن وطنه.
وسط مليون ونصف المليون، جمعتهم رغبة أكيدة لمعرفة الحقيقة، ورغبة ثانية هي الإحساس بنشوة الحرية الجماعية، وثالثة بالانتماء إلى وطن حقيقي ناسه قادرون على لمس بعضهم بعضا ولأول مرة دون خوف.
وسط مليون ونصف المليون، تصرخ ويصرخون لحق سليب وعدالة استبيحت، تنسى من أنت... أنت مواطن لبناني نقطة على السطر.
المشهد الثالث: عند الساعة السابعة إلا خمس دقائق صباحاً تأتي، قرآنها في يمينها وفي قلبها لوعة. حولها حراس وهي مدركة ألا حارس وحامي إلا الله.
تجلس على الأرض، وتقرأ لـ"معلمها وقائدها" كما تحب أن تناديه آيات من الذكر الحكيم. تكفكف دموعاً تأبى إلا أن تغسل وجهها، وتقف أخت الشهيد كما تحب أن ينادوها تسقي الورد وكأنها تسقيه قوة الصباح، وتطير اليمام عسى نور الشمس يدخل إلى مثواه. وتجول على رفاق دربه، قبراً قبراً، تقرأ لهم الفاتحة. ثم تنتصب، مرفوعة القامة، أخت الرجل-الرجل، تمشي على دربه، تسمع شكاوى الناس، تتقبل مواساتهم... ومن هناك إلى الغابة التي أراد رفيق الحريري أن يحولها إلى وطن، تحاول أخت المظلوم أن توجد فيها شريعة غير شريعة الغاب، شريعة العدالة التي لا يمكن أن تحقق دون معرفة الحقيقة، ودون محاسبة الظالم.
المشهد الرابع: "شو هيصير بلبنان"؟ هل نتفاءل؟ هل نتشاءم؟ إلى أين؟
الذي يعرف الإجابة على هذه الأسئلة اليوم له مني مليون دولار... "لا أملكها".
المشهد الخامس: تمشي في شوارع بيروت وأزقتها، تشتم رائحة الكمون والبن وزهر الليمون ولا تسمع سوى أغنية واحدة تتردد من خيام ساحة الحرية إلى ضواحي قصر بعبدا... "بيروت عمبتكي مكسور خاطرها...".