لو قدر لأجدادنا في الخليج أن يبعثوا من قبورهم ويعودوا إلى مدن في الهند من تلك التي ترددوا عليها في حقبة ما قبل النفط وهاموا عشقا بها وحسبوها درة الدنيا ونهاية حدود الكون، لما عرفوها. صحيح أن المدن، كبقية الأشياء، تنطبق عليها قوانين التطور والنمو فتتبدل خرائط وجهها بتقادم الزمن، إلا أن ما حدث في بومباي ودلهي ومدراس وكلكتا وبنغلور وحيدر آباد وتريفاندرم تجاوز تغيير الصورة إلى تغيير الوظيفة. إذ لم تعد وظيفة هذه المدن إنتاج وتسويق البهارات والحرائر والكماليات والسلع التقليدية بقدر ما هي إنتاج وتسويق العلوم والتكنولوجيا والعقول المبدعة.
وتمثل بنغلور عاصمة ولاية كارناتاكا الجنوبية نموذجا لما جرى ويجري في بقية المدن الهندية. فالمدينة التي كانت في زمن البريطانيين المكان المفضل لدى المتقاعدين والباحثين عن الهدوء، بفضل مناخها اللطيف وبحيراتها الجميلة وما شيده فيها حاكم ميسور "حيدر علي" في القرن الثامن عشر من حدائق غناء مترامية الأطراف، صارت في فترة هي بالتأكيد قياسية في حياة الأمم والشعوب، معقلا للعلوم والصناعات ومراكز الأبحاث ومعاهد التدريب العالية.
وهي بتخصصها قبل غيرها من المدن الهندية في صناعة البرمجيات التي تعتبر الهند اليوم أكبر مصدر لها في العالم، فازت بلقب "وادي السيليكون الجديد" المتفوق على وادي السيليكون القديم في كاليفورنيا لجهة عدد العقول العاملة فيه. وهذا، إضافة إلى عوامل أخرى مثل تدني الأجور وانتشار اللغة الإنجليزية ووجود بنية تحتية مناسبة، شجع كبريات الشركات العالمية (مثل ميكروسوفت وآي بي ام وموتورولا وفيليبس واميركان اكسبرس وبريتش تيليكوم) على طرق أبواب المدينة بحثا عن فرص الاستثمار المجزية أو لاتخاذها مقرا رئيسياً أو إقليميا لأنشطتها.
لكن كيف تحقق كل هذا؟ وما هي العوامل التي أفضت إلى تبوء بنغلور وبالتالي الهند هذه المكانة؟
لا شك أن الانفتاح الاقتصادي الذي دشنته الهند في مطلع التسعينيات، من بعد عقود من النهج الاشتراكي والتخطيط المركزي وقيادة الدولة للاقتصاد، لعب دورا كبيرا فيما تشهده هذه البلاد اليوم من انطلاقة علمية وصناعية مشهودة وحراك اقتصادي غير مسبوق وبالتالي قدرة على غزو الأسواق الخارجية بالصادرات التكنولوجية وزيادة احتياطيات الخزينة من العملات الصعبة (بلغت العام الماضي رقما غير مسبوق في كل تاريخ الهند هو 130 مليار دولار). غير أن هذا العامل رغم أهميته لم يكن سوى عامل مساعد. إذ لولا وجود طاقات جاهزة من نتاج خطط تنموية هادئة وحصيفة في الحقب السابقة، لما كان الانطلاق والريادة بهذه السهولة.
لقد كان من رأي الزعيم الهندي الكبير الجواهر لال نهرو – بحسب ما ورد في خطبه قبل وبعيد استقلال الهند – أن أمة كالأمة الهندية بتاريخها العريق وثقافاتها الغنية وموقعها الاستراتيجي وامتدادها الجغرافي لا يمكنها أن تبقى على هامش العالم بل يجب أن تكون في قلبه وتؤثر في مساره وأحداثه. وكان من رأيه أيضا أن السبيل الوحيد أمام الهند للعب دور يتوافق مع خصائصها هو التفوق والبروز علميا وتقنيا وصناعيا. ومن هنا وقع اختياره على بنغلور لتكون قاعدة الهند العلمية والصناعية ومركز مؤسساتها البحثية، واصفا إياها بمدينة المستقبل. أما لماذا بنغلور تحديدا، فلأنها إضافة إلى ميزاتها سالفة الذكر، كانت على الدوام الأولى تاريخيا بين مدن الهند لجهة استيعاب الجديد في عالم الاكتشافات والوسائل الحضارية. فهي أول مدينة هندية مدت إليها خطوط الهاتف (في عام 1898) وتزودت بشبكات الكهرباء (في عام 1900) وعرفت صناعة الصلب ومشاريع الري ومدارس المهن الفنية (ابتداء من 1912).
لم تكن الدولة الوليدة وقتذاك تملك الكثير للإنفاق على طموحاتها، فلجأ نهرو إلى أرباب الصناعة من العائلات الهندية الثرية يشحذ أريحيتها للمساهمة في جهد سوف يعود عليها بالنفع المؤكد مستقبلا. وكان من حظه أن وجد أثرياء بعيدي النظر ومشبعين بالولاء لوطنهم ومقتنعين بصدق توجهات زعيمهم، من أمثال قطب الصناعة والتجارة المعروف "تاتا" الذي تبرع فوراً بنصف ثروته من أجل الإنفاق على متطلبات البحث العلمي وإنشاء المعاهد العلمية والفنية ورعاية الموهوبين والنابغين.
وهكذا بحماس الدولة واهتمامها وبتحالف المال الخاص مع العلم، بدأت بنغلور خطواتها نحو الانطلاق وفق ما رسم لها. ولم يمض وقت طويل حتى صارت المدينة الشاعرية الهادئة تحتضن العشرات من مراكز الأبحاث والكليات الهندسية والمعاهد التقنية التي دأبت على مد مختلف القطاعات الصناعية والإنتاجية بالعقول والأيدي الفنية المدربة والدراسات الثرية. وكان لهذا انعكاسات ايجابية على مستويين. فمن ناحية أغرى ما حققته بنغلور مدناً هندية أخرى على اقتفاء خطواتها. ومن ناحية أخرى زالت الشكوك التي ساورت بعض رجال الأعمال والصناعة الهنود، فراحوا يرفدون جهود الدولة العلمية والبحثية بحماس أكبر.
وبتحرير الاقتصاد وفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية وسن قوانين وحوافز لتشجيع هنود الم