غيّب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عن مدى الوعي والرؤية لدينا، ما يدور حولنا من أحداثٍ عظامٍ في هذه الأسابيع الأخيرة. لقد تنبهْنا فجأةً إلى أنّ الولايات المتحدة وفرنسا، جعلتا أخيراً من ديمقراطيتنا نحن في لبنان أَولويةً حرمت جفون الرئيس بوش ووزيرة خارجيته النوم. يتحدث الرجل عنا كل يومٍ كأنما هو يتحدث عن ربيع براغ، أو عن ثَوَران أوكرانيا وجورجيا. ويقرن ذلك كلَّه بتهديد النظام السوري وإنذاره بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يخرج فوراً من لبنان بعساكره ومخابراته. ويتعدى الأمر ذلك للاهتمام بمصائر الإصلاح والديمقراطية في سوريا نفسها؛ لكنه لا ينسى وهو يفعل ذلك اتهام النظام السوري إياه بالتدخل في العراق، وبإزعاج إسرائيل بدعم حماس والجهاد الإسلامي. والطريف أنّ وزيرة الخارجية الأميركية تصبحُ متسامحةً فجأةً مع حزب الله وسلاحه، ولا تجدُ حَرَجاً في القول إنّ اللبنانيين يمكن أن يحلّوا الأمر فيما بينهم- المهمُّ هو الخروج السوري ولا شيء غير. والمهمُّ أنّ بشائر الديمقراطية اللبنانية مَدينةٌ للرئيس بوش، ولمشروعه للشرق الأوسط الكبير. وبحسب هذه "الرؤية"؛ فإنه لولا العراق وانتخاباته لما ظهرت تلك البوادر في فلسطين ولبنان!
ويظلُّ الأمر طُرفةً نعرفُ حدودَها لولا أنّ أنصار سوريا على الساحة اللبنانية، دأَبوا منذ شهورٍ على اتهام المعارضين بأنهم أعوان بوش وعملاؤه، وأفراخ القرار 1559. والذي نعرفُهُ أنّ المعارضين للوجود السوري ظلُّوا شهوراً طويلةً حفنةً من السياسيين المسيحيين الذين همشتْهم سوريا، وقوَّى جانبهم بعض الشيء انضمام وليد جنبلاط إليهم.. إلى أن اغتيل الرئيس رفيق الحريري، فتحولت الدعوةُ إلى موجةٍ هائلةٍ لمشاركة جمهور الحريري فيها، وما كان للرئيس بوش تأثيرٌ من قبل أو من بعد، باستثناء ما يمكن قولُهُ وما يقرره بعض الصحفيين من أنّ الضغط من خلال القرار الدولي رقم 1559 هو الذي دفع سوريا للانسحاب من لبنان، وليس الحركة الجماهيرية!
والذي أراهُ أنّ التحديات التي تُواجهُ المعارضة اللبنانية ليس من بينها تأييد الرئيس بوش لها، ولا الانشغال بمن أخرج السوريين أو لم يخرجهم. فالمعارضةُ قامت على لاءَين - إذا صحَّ التعبير: الانسحاب السوري، وإسقاط السلطة أو النظام الأمني، وهذان الأمران يحدُثان الآن، فالسوريون ينسَحبون فعلاً، والسلطة التي بنَوها بالداخل اللبناني طَوالَ العقود الماضية هي في حكم الساقطة: ما الذي سيجمع المعارضة ويوحّد صفوفها بعد تحقق هذين المطلبين بأسرع مما انتظرت وقدّرت؟ الإجابةُ البديهية: الطائف ودستوره! المتشائمون يقولون: لكنّ أطرافاً أساسيةً في المعارضة لا تقولُ به. ثم إنّ الحزبين الشيعيين الرئيسيَّين (حزب الله وأمل) واللذين يقولان بالطائف، لا يتلاقيان مع المعارضة في المزاج والمصالح، وهما ينظّمان التظاهرات المضادة في وجهة تظاهراتها. والواقع أنّه لا لقاء إلاّ على الطائف رغم وجود معارضين لا يقولون به؛ لكنه دستور البلاد الذي يشكّل مرجعيةً للجميع. إنما الذي ينبغي الاعترافُ به أنه لا بد من حوامل وأطراف سياسية ذات بُعد شعبي لحماية الطائف، وحماية الوحدة الوطنية من خلاله.
والواقع أنّ زيارة البطريرك الماروني للولايات المتحدة، فتحت الأجواء على أبعاد جديدة للأزمة، ولموضوع التدويل؛ لكنْ قبل ذلك على موضوع رئاسة الجمهورية، وهل ينجح اللبنانيون والعرب في جعل الرئاسة الجديدة (بعد التمديد المشؤوم) جزءًا من الحلّ الإصلاحي، بدلاً من أن تكون رمزاً للانتقال من المرحلة السورية إلى المرحلة الأميركية؟! ولذكْر العرب هنا بُعدٌ لا يمكن تجاهُلُه. فمؤتمر القمة العربي على الأبواب، وسيذهب لتمثيل لبنان فيه رئيسٌ للجمهورية يخاصمه كثيرٌ من اللبنانيين ويتهمونه، ويسعَون لاستبداله. وبوُسع العرب الذين أظهروا تفجعاً لمقتل الرئيس الحريري بهذه الطريقة، أن يُعيدوا احتضان الوضع اللبناني، وإبعاد البلاد عن كأس الشرذمة والاستتباع من جديد. وقد زار الرئيس حسني مبارك دمشق وتحادث لساعاتٍ مع الرئيس الأسد. ويستطيع المصريون والسعوديون أن يعملوا على مبادرةٍ عربيةٍ تُجاه مقتل الرئيس الحريري، وتُجاه مستقبل البلاد بالتشاوُر مع سوريا، ومع الفُرقاء اللبنانيين الرئيسيين على الساحة؛ كما سبق لهم ولغيرهم أن فعلوه في مؤتمر القمة بالرباط عام 1987. وفائدة المبادرة العربية تنحية مخاطر التدويل، وتقوية الجانب العربي بلبنان بعد أن ضَعُفَ بسبب سوء الإدارة السورية المتفرّدة، والشكوك المتفجّرة عشية استشهاد الرئيس الحريري، ثم الانسحاب السوري بهذه الطريقة التي شجّعت المعارضين، والأميركيين، على حدٍ سواء.
بيد أنّ ضرورات التدخل العربي لا تنحصر بالانسحاب السوري، ومخاطر التدويل والهيمنة. بل هناك ظواهر على الساحة اللبنانية، بالإضافة إلى ما سبق ذكره. فقد حدثت تظاهرة ساحة الشهداء المليونية يوم الاثنين الماضي، والتي أرادها بعض المعارضين فرصةً للردّ على تظاهرة حزب الله وحلفائه يوم الثلاثاء الأسبق. لكنّ التظاهرة الحاشدة