في مقال الأسبوع الماضي تطرقنا للقفز إلى الوراء، وهو مصطلح يشير لمن يعتقد أنه ببقائه مكانه فإنه يحافظ على سر تميزه، وتبين لنا بدراسة التاريخ أن البقاء في المكان يعني أن الناس سيتقدمون عنك مما يجعلك في عداد المتأخرين، وفي نهاية المقال طالبنا المخلصين في الدولة بتطوير كل ما هو قابل للتطور إذا أردنا لدولتنا البقاء في الصدارة في أي شأن من الأمور. هذا الأمر علق عليه البعض بأننا في الدولة ولله الحمد نتقدم دائما إلى الأمام وما عرفنا الجمود. الأمر صحيح في بعض القضايا ويحتاج إلى توقف في أمور أخرى، فلو بحثنا مثلا في أحد جوانب تميز الإمارات عن غيرها لرأينا مثلا البعد الاقتصادي الذي كسرت به الدولة النموذج العربي التقليدي وأصبح لها المكان الاقتصادي، كما نجحت الإمارات في أن تكون إحدى الوجهات السياحية المتميزة في العالم. ولو أردنا سرد المنجزات لما وسعتنا الصفحة لكن الحذر كل الحذر أن تكون هذه القفزات مؤقتة شأنها شأن بقية الدول، فمن يدرس التاريخ يدرك أن له دورة مرت بها العديد من الدول والقليل منها هو الذي أجبر التاريخ على البقاء عنده فترة أطول من الزمن لعوامل كثيرة.
مشكلة من يقفز في الهواء أنه يكون في مهب الريح فتارة نجده يميل إلى الشمال وفترة يقذف به إلى الجنوب، دعونا نعطي مثلا على ذلك في الإصلاح التربوي. إن الدارس لتميز العديد من الدول يجد أن لها قفزات محددة ووطنية في ميدان التربية والتعليم. هذه الدول كانت لها مكانة في العالم، الكل يشيد بالتجربة الماليزية هنا فهي دولة مسلمة لها هويتها الخاصة استفادت من تجارب العالم في بناء مدرستها الخاصة التي تعد الماليزيين للمستقبل. لو تأملنا العالم العربي لرأينا أن فيه مدرستين كلتاهما أمر من الثانية. الأولى مدرسة التقوقع في الداخل أو التمحور حول الذات، فأصبح أنصار هذه المدرسة يدورون على الرحى ظنا منهم أنهم يقفزون إلى الأمام وحقيقة الأمر أنهم يدورون في مكانهم مما زادهم تأخرا. والمدرسة الثانية هي التي تعيش على ما يقدمه لها العالم من منجزات، فلو دخلت مدارسهم لرأيت الكتب المستوردة والأجهزة المستعارة، بل وحتى الروح الغربية، هذا الأمر جعل هذه المدرسة نسخة سيئة عن الآخر وجعلهم ينتظرون ما يعده الغير لهم، ومن صدقت عليه هذه الحالة فإنه لن يتقدم حتى يأذن له صاحب المدرسة الأم. العقلاء من الناس هم الذين يستفيدون مما عند الآخر لكن يتم تكييفه حسب الأهداف الخاصة للأمم وقد لاحظت منظمة اليونيسكو الأمر فأعلنت شعارها المشهور، فكر عالميا لكن تحرك محليا، فلكل قطر ظروفه ومن حق العالم علينا أن تكون لنا تجربتنا الخاصة التي نسهم بها في تقديم نموذج آخر للنجاح لمن شاء أن يلحق بنا.
بعيدا عن التربية ندخل في السياسة لنرى نفس المشهد المتكرر للقفز لكن في الهواء، فالبرلمانات العربية حاولت أن تقلد النسر الغربي فتحولت إلى سلحفاة تمضي ببطء لكنها إن قفزت كان اتجاهها إلى الخلف للأسف الشديد فلا هم طبقوا الديمقراطية بمعناها الصحيح ولا هم قدموا للعالم التجارب الناجحة الخاصة بنا.
نفس الفلسفة تنسحب على الإعلام فأدواته مستوردة من الخارج حتى بعض البرامج استنسخناها من غيرنا دونما وعي، نعم نحن شركاء في الكرة الأرضية لكن لنا خصوصياتنا.
بعد هذه المشاهد دعوني أقف معكم للبحث عن الأسباب والتي ألخصها في عدم وجود رؤية محلية للقفز، والأمر الثاني أننا إلى الآن لم نوفق في إعداد الكفاءات المواطنة المطلوبة لتحديد اتجاه القفز، فبدونهم نبقى عالة على الغير فمتى نتوقف عن القفز مع الهواء.