رفعت الأعلام الحمراء والبيضاء ووسطها شجرة الأرز باسقة تهزها أيادي العرب في لبنان. وتذكّر بالثورة الفرنسية والعلم المثلث الألوان، و"المارسيلييز"، والاستيلاء على سجن الباستيل. وأين؟ في أصغر دولة حجما مساحة وسكانا، صورتها في ذهن العرب الجمال والحب، والشعر والغناء، والجبل والسهل والبحر، جمال الروح وجمال الطبيعة. وفي نفس الوقت في أكبر دولة من حيث المقاومة والقدرة على العمل والإعمار. فقد حرر شعبها الجنوب المحتل بفضل تنظيماته السياسية وقواه الشعبية. وما زال صامدا ضد كل محاولات نزع سلاحه وإنهاء مقاومته بدعوى السلام القادم مع العدو المحتل واستقلال الدولة وسيطرتها على المجتمع. في حين أنه في دول أخرى مركزية مثل مصر وسوريا تطالب الولايات المتحدة الأميركية بتقوية المجتمع المدني وتخفيف الدولة قبضتها عليه. وهي لا تريد هذا ولا ذاك، لا مجتمعا مدنيا قادرا على مناهضتها، ولا دولة وطنية مستقلة ترفض التبعية لها. لبنان عقل الأمة في الفكر والأدب، طباعة ونشرا. لغتها وشعرها ونهضتها منذ القرن التاسع عشر، وأدباؤها ومصلحوها المهاجرون من بر الشام إلى بر مصر. وقد كان حصار بيروت في 1982 من شارون، رجل السلام الآن، هو حصار لعقل العرب بعد الجثمان على جسد العرب في فلسطين والجولان. وكتم نفس العرب في مصر.
ولقد تساءل الناس من قبل: أين الشارع العربي؟ أين جماهير العرب؟ أين الأمة العربية التي طالما خاطبها عبد الناصر لردع العدوان عنها وتوحيدها؟ لقد نزلت الملايين في عواصم الغرب ومدنه الكبرى، وفي قلب الولايات المتحدة الأميركية، باريس ولندن وبراغ وسياتل وفلورنسا وجنوة ضد الاحتلال الأميركي للعراق رافعة أعلام العراق وفلسطين فوق الأعناق. ولم يتحرك الشارع العربي إلا في هبات وقتية ومظاهرات طلابية أعظمها الرباط، في أقصى المحيط، وأولها في الخليج الذي لم يتعود على حركة الشارع، وقبلها في جامعات مصر. ومع ذلك ظلت منذ عدة سنوات محدودة الأثر. وغلب على الشارع العربي السكون وكأن الأمر لا يعنيه، بعد أن أدار ظهره لنظم الحكم التي احتكرت القرار السياسي على مدى نصف قرن، في الحرب والسلام، وفي الاشتراكية والرأسمالية، بل وفي الاستقلال والتبعية. والأمة يتزايد عددها منذ أن كان يشير إليها عبد الناصر في خطبه بأنها مئة وخمسون مليونا، وقد جاوزت الآن المائتين وخمسين. بل إن الأمة الإسلامية المحيطة تزيد على المليار، خمس سكان العالم، ومازالت القدس محتلة، وأفغانستان والشيشان وكشمير أيضا محتلة. أصبحت الأمة كالقلب أو الجوف المفتوح تجري فيه القوى الدولية ما تشاء من عمليات جراحية وكأن الجسد بلا صاحب، جثة هامدة واراها التراب. صاحبه يخدره، وعدوه يقتله.
وأخيرا تحرك الشارع العربي في بيروت يحمل الأعلام الوطنية وليست الحزبية، ويترنم بالنشيد الوطني. ويقف في ساحة الشهداء يرثي شهداءه القدماء والجدد. وتسقط الجماهير الحكومة، وتفرض إرادتها على المجلس النيابي. فليست جماهير جورجيا وأوكرانيا وكولومبيا وتشيلي بأفضل من الجماهير العربية. تجاوزت الجماهير ممثليها المنتخبين. وتجاوز الممثلون حكومة الأغلبية. فالغليان في القلب قد طالت مدته. وتدافع الجماهير العربية عن كرامتها الوطنية. وتسأل عمن اغتال رئيسها ومعمِّرها وموحِّدها. وتدافع عن استقلال الأوطان. وتطالب بانسحاب قوات دولة الجوار التي طالت على أكثر من عقد من الزمان بعد اتفاق الطائف وانسحاب الأجهزة الأمنية التي لم يتعود عليها لبنان الحر الطليق، بل والفوضوي العتيق. والتدخل الأجنبي في هذه الحالة من القوى الغربية التي تسيطر على المنظمات الدولية يصطاد في الماء العكر. وتصدر القرارات دفاعا عن استقلال لبنان وسيادته وهو يهدف إلى السيطرة على المقاومة. وتوطين اللاجئين، وجر لبنان إلى مخططات التسوية في اتفاق 17 مايو- أيار جديد. ويركب الموجة، موجة الشارع اللبناني والوطنية اللبنانية باسم الشرعية الدولية، ومزارع شبعا ما زالت محتلة في الجنوب، والجولان ما زال محتلا في الشمال، بالرغم من صدور العشرات من القرارات الدولية بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة في يونيو- حزيران 1967. وتم تشويه الحركة الوطنية اللبنانية التي استطاعت لأول مرة منذ الاستقلال وبعد الحرب الأهلية النزول إلى الشارع باسم الاستقلال الوطني وليس باسم الطائفية والعشائرية محققة بذلك، وعلى نحو تلقائي، أحد بنود اتفاق الطائف. وتم تشويهها بقسمتها إلى موالين ومعارضين، موالين لسوريا والنظام في لبنان، ومعارضين لهما. وكلاهما وطنيون عروبيون قوميون. إنما هي التعددية السياسية التي تصل إلى حد الصراع السياسي على حساب الوفاق الوطني الذي يعمل له "حزب الله" في الجنوب، والمتهم بالإرهاب والعنف. والمطلوب نزع سلاحه وكأنه ميليشيات تقاتل على الهوية وليس محررا للجنوب.
إن ما حدث في بيروت وتحرك الشارع العربي قابل أن يتكرر في باقي العواصم العربية. يقلب موازين القوى في الوطن العربي لصالح الشعوب. ويفك أسر الأنظمة المحاصرة بين المطرقة والسندان، مطرق