إذا ما تتبعنا المناقشات التي يتم تداولها في المقاهي المقامة على امتداد "خور دبي"، أو في سوق الذهب في قلب مدينة جدة السعودية، أو في المجالس الخاصة لملايين البيوت على امتداد مساحة العالم العربي الشاسعة، فقد يتاح لنا سماع الكثير من الأشياء الطيبة، التي تُقال عن الرئيس جورج دبليو بوش.
نعم، يمكننا أن نسمع مثقفين، ورجال إعمال، وأفراداً من الطبقة العاملة، وهم يلهجون هذه الأيام، بالثناء على الموقف الصلب الذي يتبناه الرئيس الأميركي تأييدا للديمقراطية في العالم العربي، ويشجعونه على الاستمرار في معاملته التي لا تتسم بالاحترام للحكام الشرق أوسطيين، من حلفاء الولايات المتحدة، وذلك بالضغط عليهم، ليقوموا بإجراء انتخابات حرة، ويفرجوا عن المساجين السياسيين، ويجعلوا التجارة حرة ومفتوحة.
ولعلي لا أذيع سرا عندما أقول إن الملايين من المواطنين العرب العاديين يؤيدون تهديدات بوش الصريحة والصارمة الموجهة لسوريا، والتي تطالبها بسحب قواتها واستخباراتها من لبنان، قبل حلول موعد الانتخابات المزمع إجراؤها هناك الشهر المقبل.
وفي الحقيقة أن ذلك كله، يعبر عن رغبة أعداد هائلة، ومتزايدة باستمرار من بعض العرب، في التحرر من رقبة الطغيان على مساحة الأرض الممتدة من الدار البيضاء وحتى مدينة الكويت. فما يقوله بوش يعكس، ويعزز، ويعبر عما كان هؤلاء المواطنون يخفونه في قلوبهم لفترة طويلة من الزمان وهو: التوق إلى حقوق الإنسان، والعدالة، والحرية، وحكم القانون، والشفافية، وفرض قيود على السلطة، وحقوق المرأة. باختصار التوق إلى الحضارة كما نعرفها في القرن الحادي والعشرين.
وقد ظلت المطالبات بتلك الحقوق الأساسية للغاية، تتم بشكل سري على امتداد حقبة طويلة من الزمان، وذلك قبل أن تدفعها إلى نطاق العلن مجموعة من التطورات التي تلاقت، وجعلت تلك المطالبات أكثر عزما وتصميما، والتي بدأت بدخول عصر ثورة الفضائيات العربية في العقد الماضي، وانتهت بحادث اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من الشهر الماضي. لقد أدت تلك المجموعة من التطورات إلى تحرر العقل العربي من الخوف، الذي كبل طاقته ردحا من الزمان.
وبصرف النظر عن نوايا جورج بوش، التي لا يزال العديد من العرب والمسلمين ينظرون إليها بعين الريبة، فإن رئيس الولايات المتحدة وجماعة المحافظين الجدد في إدارته، يساعدون الآن على تفريخ روح الإصلاح، وخلق زخم جديد لمواجهة الديكتاتوريات العربية، ومواجهة غيرها من العلل، التي تطفح بها منطقة الشرق الأوسط الكبير.
ويكفي أن يقوم كاتب هذه السطور، ومعظم أصدقائه الليبراليين، الذين طالما شعروا بأن موقف بوش تجاه الشرق الأوسط كان خطأ بأكمله، بالتساؤل الآن عما إذا كانت فكرته الخاصة بترتيب البيت العربي والإسلامي من الداخل أولا، هي المدخل الصحيح لنشر العدالة في الشرق الأوسط؟ قد تكون الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب، ولكننا يجب مع ذلك أن نقول إنه ما زال من المبكر أن نقوم بتقديم التهاني.
إن بوش قد يشعر الآن بأنه يستمد إلهامه فيما يفعله من الرئيس الأسبق "رونالد ريجان"، الذي قال للرئيس السوفيتي "ميخائيل جورباتشوف" عام 1989 "اهدموا حائط برلين" ، فهدمه.. ولكنه مطالب في نفس الوقت بأن يعرف أن الشرق الأوسط قد يكون أقرب شبهاً بالصين، التي قامت حكومتها الشيوعية التوتاليتارية، بسحق حركة التحرير فيها في نفس العام.
إن المرء لا يملك إلا أن يتساءل، كيف ستبدو السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، إذا ما قرر الأوتوقراطيون، والحكام، والمتطرفون الدينيون، الوقوف ضد أصوات الحرية، التي تتردد أصداؤها في أنحاء المنطقة في الوقت الراهن؟.
سيتعين علينا العثور على إجابات لهذا السؤال وغيره في الشوارع العربية، وفي الانتخابات الحرة في فلسطين والعراق، وفي أماكن أخرى كذلك.. وفي المظاهرات التي اندلعت في بيروت والقاهرة، وفي غيرهما من المدن، وفي الموقف الشجاع الذي اتخذته النساء الكويتيات الأسبوع المنصرم، عندما قمن بتنظيم مظاهرات علنية للمطالبة بحقهن في التصويت. كما يمكننا أيضا أن نعثر على إجابته في قلوبنا، وفي معرفتنا أن حرصنا على دعم هذه الحركة، هو الضمانة الوحيدة لاستمرارها.
إن العالم الآن قد أصبح يعرف الشعار الذي يرفعه ذلك التمرد الشعبي العربي الوليد وهو "كفاية". إن كلمة "كفاية" هي في رأيي كلمة ستدخل قواميس اللغات الأجنبية المختلفة، كما دخلتها كلمة "الانتفاضة" من قبل، وخصوصا بعد أن اكتسبت زخما، وقوة سحرية، ربما تكون دائمة.
لقد رأى الأميركيون هذه الحركة، وجاءوا كي يعطوها دفعة، تحركهم في ذلك بالطبع دوافعهم وأسبابهم الخاصة. حسنا لا ضير من ذلك.. ولكن بقاء الأميركيين أو عدم بقائهم، يجب ألا يكون هو العامل الحاسم في نجاح هذه الحركة أو عدم نجاحها، لأن المهم في رأينا هو قدرة الحركة ذاتها على مواصلة المسيرة.
ومما يذكر في هذا السياق أن "عبد المنعم سعيد"، وهو أحد المحللين المتخصصين في الشأن العربي، قد ذهب في مقال له نشر في صحيفة "الشرق الأوسط"