"لقد أضحت الأمم المتحدة، أبعد ما تكون عن تحقيق ما كان يطمح إليه آباؤنا المؤسسون وبخاصة فيما يتعلق بالأهداف التي ضمنوها في الوثيقة من أجل وقف الاعتداءات وحماية حقوق الإنسان، بل إن هذه المنظمة باتت تقف خلف مفاقمة جميع المشاكل والسلبيات".
بهذه الكلمات يبدأ "دوري جولد" هجوماً ربما هو الأعنف من نوعه على منظمة الأمم المتحدة في كتابه الذي يحمل عنوان "برج بابل: كيف أصبحت الأمم المتحدة تؤجج الاضطرابات العالمية"، ويمضي المؤلف الذي شغل منصب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة للفترة من عام 1997 إلى عام 1999 إلى أن الأمم المتحدة برهنت منذ نشأتها على عجزها المستمر عن إيقاف أو حتى حل النزاعات الدولية حيث سمحت لقوات حفظ السلام بالتورط في أعمال الإبادة والتطهير العرقي في دولتي رواندا والبوسنة، وفشلت كذلك في كبح جماح "الإرهاب"، وانتشار الأسلحة النووية في نفس الوقت الذي أصبحت فيه الجمعية العامة منتدى لديماغوجية أنظمة الطغيان المتسلطة المعادية للديمقراطية الغربية. إن هذا الموقف "المتجرد" للمنظمة أفضى فيما يبدو إلى "مساواة أخلاقية" لم تفرق بين الضحية والمعتدي، وهو أمر في نظر الكاتب يفتقد إلى "الوضوح والشفافية الأخلاقية" بخاصة فيما يتعلق بالاعتراض على المواقف الأميركية- الإسرائيلية.
وفي معرض هجومه يتطرق الكاتب إلى العديد من الأزمات الدولية التي رافقت المنظمة منذ تأسيسها وحتى اندلاع الحرب الحالية في العراق مركزاً جل اهتمامه على النزاع العربي- الإسرائيلي، إلا أن حيثياته اعتمدت طابع الحكاية في بعض الأحيان وانتهجت التحيز في أحيان عديدة أخرى، وعلى سبيل المثال فإن انتقاداته لبرامج التفتيش التابعة للأمم المتحدة والعقوبات التي تم فرضها على العراق أغفلت حقيقة أن هذه الجهود هي التي أدت إلى تفكيك وتحييد أسلحة نظام صدام حسين، أما تأكيده على أن "الشفافية الأخلاقية" هي الوحيدة القادرة على توحيد الديمقراطيات في العالم خلف الزعامة الأميركية، فهذا أمر بدون شك يحمل في طياته الكثير من السطحية والتبسيط.
ويمضي الكاتب المطلع على بواطن الأمور في أروقة المنظمة إلى كشف الكيفية التي تم بها اختطاف الأمم المتحدة من قبل القوى المعادية للديمقراطية، بحيث تركت أميركا وحلفاؤها في مهب الريح، فلقد استمر المنتقدون والسياسيون يتوسلون الولايات المتحدة من أجل منح الأمم المتحدة دوراً أكبر في السياسة الخارجية على أن من السخف - كما يشير الكاتب- الاعتماد على الأمم المتحدة في محاربة الاعتداءات ومكافحة "الإرهاب" والحفاظ على الاستقرار العالمي. إن الأمم المتحدة في نظره مجرد منظمة بائسة عملت في حقيقة الأمر على إذكاء ونشر الاضطرابات والفوضى تحت هيمنة الديكتاتوريات والقوى المعادية للغرب والراعية لـ"لإرهاب". وعبر إطلاعه على العديد من وثائق الأمم المتحدة والمراسلات السرية، قدم "جولد" دلائل دامغة عن الكيفية التي تجاهلت بها المنظمة الدولية العديد من حوادث الإبادة الجماعية وإفلات "الإرهابيين" من العقاب والتغاضي المستمر عن انتشار النظم الديكتاتورية، وكيف تخلت عن واجباتها في حماية السلام والأمن الدوليين، بيد أنه مضى أيضاً لدعوة أميركا للانسحاب من المنظمة بهدف حشد إمكانياتها لمواجهة أخطر التحديات على أمنها القومي. ومضى يسرد التفاصيل التي تزعم أن الأمم المتحدة استمرت في إحباط الجهود الرامية لمكافحة "الإرهاب"، وكيف أن العناصر "الإرهابية" تمكنت من اختراق المؤسسات التابعة للمنظمة نفسها. ثم يتطرق إلى فضيحة النفط مقابل الغذاء مشيراً إلى الفشل المتكرر للمنظمة في التعامل مع عراق صدام حسين. وبدا من غير المستغرب أيضاً أن يعتبر الكاتب أن مشروع المحكمة الجنائية الدولية يمثل تهديداً سافراً للمصالح والسيادة الأميركية، بل إن المنظمة أدمنت هذا الفشل منذ بواكير أيامها، مما أجبر العديد من الرؤساء الأميركيين مثل "ترومان" و"كينيدي" و"جونسون" و"كلينتون" وأخيراً "جورج دبليو بوش" إلى تجاوز مجلس الأمن والمضي قدماً في تحقيق أهدافهم "النبيلة". ويسترسل الكاتب في الادعاء بأن الأمم المتحدة قد برهنت على أنها مجرد أسطورة عفا عليها الزمن بخاصة فيما يتعلق بأنها (المصدر الوحيد للشرعية الدولية) وما لم تدرك الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه الحقيقة فإنهم سيستمرون في مواجهة المخاطر المحدقة. ويكشف كتاب "برج بابل" عبر سرد للأحداث التاريخية كيف أن المنظمة فشلت منذ نشأتها في تحرير المضطهدين، وانصرفت عوضاً عن ذلك إلى تعزيز وترجيح حقوق الدول على حساب حقوق الأفراد. ومن وجهة نظره، فإن أول محك واجهته المنظمة وباءت فيه جهودها بالفشل الذريع هو اندلاع الحرب الأولى بين العرب والإسرائيليين، ثم النزاع بين الهند وباكستان في نفس الفترة تقريباً، ولكن الأمم المتحدة لم تكتف بمجرد الفشل في إيقاف هذه الحروب، بل آثرت أيضاً الوقوف إلى جانب المعتدي! ويمضي إلى وصف المنظمة بأنها كيان يفتقد إلى الرؤية والحيادية بشكل لا أخلاقي وبخاصة حيال فظائع الإبادة الجماعية ف