ما من شيء شغل بال إدارة بوش مؤقتاً عن طهران، سوى تعقيدات ظروف ما قبل الانتخابات العراقية التي جرت في شهر يناير الماضي، وقبلها الحملة الانتخابية الرئاسية، التي فاز فيها بوش بولاية ثانية في شهر نوفمبر من العام المنصرم. والآن فقد عادت واشنطن إلى مواجهتها واستهدافها للبرامج النووية الإيرانية، وإن كانت وساطة كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا، تخفف من غلوائها بعض الشيء، في ظل سعي الدول المذكورة، بل الاتحاد الأوروبي في مجمله، لإيجاد تسوية سلمية دبلوماسية للأزمة مع طهران. ولكن هناك في دوائر وأروقة الإدارة، من يدفعه التشدد إلى القول إنه لا يمكن بأية حال، الاستهانة بالخطر الذي تمثله البرامج النووية الإيرانية بالنسبة للأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، بل وبالنسبة للأمن القومي الأميركي، وللغرب عموماً. مبعث هذه المخاوف قديم قدم انطلاق البرامج المذكورة نفسها قبل عدة سنوات، إلا أنه تعاظم أكثر اليوم مع الاتهامات الموجهة لإيران، حول إتقانها فن التلاعب بأسعار النفط العالمي ومحاولة التحكم فيها، بغية توفير الأموال اللازمة لتطوير برامجها وأسلحتها النووية، علاوة على ما ينسب إليها من تمويل ورعاية للإرهاب الدولي.
هذا هو ما يتصدى له الكتاب الحالي الذي نعرض اليوم، لمؤلفه الدكتور "جيروم كورسي". وفيه يحاول المؤلف كشف ما يسميه بالنوايا الحقيقية لإيران، وعلاقة النظام الإيراني بعدد من كبار الساسة الأميركيين، الذين يبذلون جهداً خفياً، ويمارسون على واشنطن ضغوطاً مستمرة، في سبيل التخفيف من تشددها حيال طهران، والدفع باتجاه تطبيع العلاقات التجارية معها. كما يكشف المؤلف النقاب عما يسميه بشبكة من الممولين الأميركيين، توفر ما يكفي من الأدلة على تمويلها السخي، لعدد من الشخصيات السياسية الأميركية البارزة، ذات التأثير المباشر على دوائر اتخاذ القرار في البيت الأبيض، أملاً في تحقيق ما تتطلع إليه إيران، من تطبيع للعلاقات التجارية والدبلوماسية مع واشنطن. وإذا كانت الإدارة قد أدرجت اسم إيران في قائمتها الخاصة بدول وبلدان "محور الشر"، فإن الاتهام الأقوى الذي يوجه إلى هؤلاء الساسة الأميركيين، هو التواطؤ مع إيران، والعمل على تطبيع العلاقات مع دولة "مارقة" وراعية للإرهاب، وفقاً للمعجم السياسي الذي تستخدمه الإدارة، في لهجتها ونبرتها الحادة في التعامل مع من صنفتهم سلفاً في خانة الإرهاب. بذلك تتلخص التهمة في السعي إلى إضفاء شرعية وإقامة علاقة تجارية دبلوماسية طبيعية مع "دولة مارقة". وفي إطار التهمة ذاتها، هناك من يقول بسعي البعض في واشنطن، للاستفادة من ارتخاء تطبيق نصوص "قانون الوطني" الأميركي، في تذليل الطريق أمام طهران، لتصدير إرهابييها إلى داخل الولايات المتحدة، تحت لافتة وعمامة السلك الدبلوماسي، لتنفيذ عمليات ضد أهداف استراتيجية هناك.
وفي الكتاب أيضاً يزعم المؤلف كشفه عن تلاعب إيران بأسعار النفط العالمي، ومحاولاتها المستمرة، التحكم في تلك الأسعار. ويقيم الدكتور "كورسي" هذا الاتهام، على أساس تقليص إيران لإنتاجيتها النفطية في ظل الأزمة الراهنة، الأمر الذي يترك تأثيرات مزدوجة، أولها التأثير سلباًَ على عدد من الاقتصادات العالمية، وثانيهما زيادة معدل الفائدة والعائدات النفطية. وقال إن هذه العائدات، إنما يجري إنفاقها بشكل رئيسي على مشروعات تمويل الإرهاب الدولي، بما فيها تمويل المطامح النووية الإيرانية. هذا وقد حذر المؤلف من المخاطر الأمنية التي سوف تسببها طهران النووية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، إلى جانب ما ستمثله من خطورة على الاقتصاد العالمي برمته، فيما لو أحكمت سيطرتها التامة على نحو 40 في المئة من إجمالي العرض النفطي العالمي. وفي تلك الحالة، فربما تسعى طهران، إلى رفع أسعار النفط العالمي إلى ما يزيد على 100 دولار عن البرميل الواحد.
يجدر بالذكر أن هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يحذر من مخاطر التسلح النووي الإيراني. فهناك كتاب آخر بعنوان "البديل النووي الإيراني: سعي إيران وراء القنبلة النووية"، من تأليف "إيه. جي. فينتر". وفي هذا الكتاب أيضاً، تحليل للتغيرات التي ستتركها إيران على موازين القوى والأمن القومي والدولي، علاوة على التحذير من التأثيرات السالبة التي سيلقي بها السلاح النووي الإيراني على الميزان التجاري العالمي، لا سيما على قطاع النفط وأسواقه وأسعاره العالمية. ويستند هذا الكتاب الأخير، على اعتراف طهران نفسها، بوجود برامج خاصة بالتخصيب العالي لـ"اليورانيوم" في العام الماضي. ورأي "فينتر" أن في هذا الاعتراف، ما ينفي ادعاء إيران تخصيص برامجها النووية للأغراض السلمية وحدها، متمثلة في حقها في الحصول على الطاقة النووية. ومن رأي "فينتر" أن طهران، ستمثل تهديداً أمنياً مباشراً للدول المجاورة لها في منطقة الشرق الأوسط، استناداً على نواياها وأطماعها التاريخية، وتطلعها إلى فرض نفوذها الإقليمي، وتصدير منهجها ونموذجها في الحكم والثورة الإسلامية إلى الدول المجاورة.
وعلى رغم م