إذا كنا قد حللنا من قبل ظاهرة هيمنة الفكر الواحد وسيطرة الأمر الواقع ورددناها إلى أصولها التاريخية، وأظهرنا خطورتها على الصعيد العالمي، فإننا تساءلنا عن صدد وضعها في مصر، لأننا نعتبرها حالة نموذجية لدراسة هذه الهيمنة والسيطرة على صعيد العالم العربي إلى حد كبير، وخصوصاً بالنسبة للأفكار التي شهدت طوال الخمسين عاماً الماضية تحولات إيديولوجية كبرى.
ولو رجعنا في مصر إلى العصر الليبرالي الذي امتد منذ عام 1923 تاريخ صدور الدستور إلى ثورة يوليو 1952، فإننا نستطيع أن نقرر أن مصر طوال هذه السنوات الممتدة من عام 1923 حتى يوليو 1952 لن يهيمن عليها الفكر الواحد.
ولو تأملنا خريطة التيارات الفكرية الكبرى لأدركنا أن التيار الليبرالي كان هو التيار الغالب، وكانت الوزارات المصرية التي تتولى الحكم سواء كانت من حزب الوفد (حزب الأغلبية) أو من أحزاب الأقلية تعبر عن هذا التيار الليبرالي بصورة أو بأخرى. غير أن هذا لم يمنع أن يكون على يمين هذا التيار فكر الإخوان المسلمين الذي يعبر عن التيار الديني الذي يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وعلى يساره الفكر الشيوعي الذي عبرت عنه أحزاب شيوعية سرية متعددة، بحكم التجريم القانوني لمن يتبنى أو يروج لهذا الفكر.بالإضافة إلى فكر حزب "مصر الفتاة" الذي تحول ليصبح الحزب الاشتراكي بعد أن تبنى المذهب الاشتراكي.كل ذلك بالإضافة إلى أفكار المستقلين التي كانت مطروحة على الساحة في شكل تصور، أو في صورة جمعيات تدعو للإصلاح مثل جماعة النهضة القومية.
صحيح أن الاتجاه إلى التقييد ظهر بين بعض ممثلي التيار الليبرالي في الحكومة حين حلت جماعة الإخوان المسلمين عام 1945، ولكن مما لا شك فيه أن المجتمع المصري وخصوصاً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى يوليو 1952 كان يموج بالتفاعلات الفكرية بين ممثلي تيارات إيديولوجية متعددة ومتنوعة.
غير أن القطيعة التاريخية - على غرار مفهوم القطيعة المعرفية الشائع في فلسفة العلوم- حدثت في يوليو 1952، حين قام انقلاب الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، والذي سرعان ما تحول إلى ثورة بحكم تبني الضباط الأحرار لمشروع العدالة الاجتماعية، الذي سبق أن صاغته القوى الوطنية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حين طالبت بإصلاح الخلل الاجتماعي الجسيم بين من يملكون ومن لا يملكون، فمنذ عام 1952 بدأت دائرة التنوع الفكري تضيق بالتدريج، بعد إلغاء الأحزاب السياسية عام 1954، ثم في الحقيقة تأميم السياسة لصالح تنظيمات الثورة، وهذه التنظيمات تدرجت في بنيتها إلى نظريات إيديولوجية شاملة ومتماسكة من هيئة التحرير حتى الاتحاد الاشتراكي.
وهكذا يمكن القول إننا في مصر نعيش في الواقع في ظل هيمنة الفكر الواحد منذ عام 1952 حتى الآن!
قد يكون الرئيس السادات ألغى "الاتحاد الاشتراكي" باعتباره الحزب الواحد، وحل محله في فترة حزب مصر، والذي خلفه بدون أي تمهيد الحزب الوطني الديمقراطي، وقد يكون سمح بقيام المنابر أولا، ثم قيام الأحزاب السياسية المصرية وفق شروط محددة، إنما مما لا شك فيه أن المجتمع المصري كان وما يزال يعيش تحت هيمنة الفكر الواحد للحزب الوطني الديمقراطي. ولأنه حزب الأغلبية - حسب نتائج الانتخابات الرسمية- فقد أعطى لنفسه الحق في أن يفكر بالنيابة عن الشعب المصري.
وفي تقديرنا أنه لا يمكن للإصلاح السياسي سواء في مصر أو في غيرها من البلاد العربية أن يبدأ بجدية إلا إذا تم التخلص نهائيا من التراث السلبي للفكر الواحد، الذي يعتقد أصحابه أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة! ولذلك هم لا يأبهون كثيراً بالآراء المخالفة أو بالتيارات السياسية الأخرى التي تطرح رؤى بديلة للسياسات القائمة، أو التي يرفع صياغتها في المستقبل.
إن التعددية لا تعني فقط التعددية الحزبية مطلقة كانت أو مقيدة، ولكنها تعني في المقام الأول التعددية الإيديولوجية والفكرية، والتي - في إطار الدستور والقانون- ينبغي أن تمارس بأقصى درجة من الحرية والمسؤولية، حتى تعرض الرؤى المختلفة، والاجتهادات المتعددة للأحزاب السياسية والمثقفين ومؤسسات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والجامعات، وتعرض على جموع الشعب للمفاضلة الحرة بينها.
بعبارة أخرى نحن نحتاج إلى إقامة أكبر حوار ديمقراطي بين مختلف التيارات السياسية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أجل تشخيص المشكلات والاتفاق ما أمكن على استراتيجيات التنمية الشاملة والمستدامة التي من شأنها أن يعبر المجتمع من التخلف إلى التقدم.
ومن هنا يمكن القول إن التعديلات الدستورية مهما كانت جسارتها تحتاج إلى إعادة اختراع السياسة في المقام الأول حتى تبرز فاعليتها الحقيقة وتنأى بمردودها الديمقراطي المأمول.
ونقصد بذلك ضرورة رفع القيود العديدة التي وضعت أمام المواطنين لكي لا يعبروا بحرية عن أنفسهم، ويقتضي ذلك إزالة كافة المعوقات أمام حرية الحركة، من أول إلغاء العمل بقانون الطوارئ، إلى إلغاء القوانين الاستثنائية، وضمان أن ي