نعم. حسناً فعلت سوريا بإعلانها الانسحاب من لبنان، حيث تم تغليب لغة العقل والواقع على شعارات الماضي وانحراف التفكير. إذ أن هنالك من شواهد العصر القريبة ما تقشعر له الأبدان، وكيف أن "عنجهية" الحاكم قد دمرت شعباً بأكمله، وكانت صورة المشهد العراقي ستتكرر في دمشق، لولا تلك الحكمة، وسعي العرب المخلصين لعدم وقوع سوريا في الفخ الأميركي. وبغضّ النظر عما يرفعه بعض "قصار النظر" الذي يعيشون الوهم القومي "الجائع"، فإن سوريا حفظت الشعب والبلاد من كارثة حقيقية، وأوقفت سيل العداء ضدها، خصوصاً ما تعلق بالاتهامات الأميركية لها بتسهيل دخول المخربين، واحتفاظها برموز النظام البائد في العراق، وغيرها من المسائل التي أججت العداء الأميركي لها.
وحيث إن سوريا بدأت فعلاً سحب قواتها من مناطق في لبنان، إلى سهل البقاع كما تم الإعلان عنه! إلا أن المشهد اللبناني لا زال مشوشاً وغير مستقر على حالة، نظراً للاختلاف حول تفسيرات ومجالات الانسحاب السوري، إذ هل يتم الانسحاب "الفيزيائي" العسكري، ويبقى الوجود الاستخباراتي وبقية الأمور المتعلقة بالحياة السياسية في لبنان؟
رئيس الحكومة المكلف (عمر كرامي) يعلن أنه سيشكل حكومة متعددة الألوان، تضم القوى الموالية والمعارضة، داعياً إلى "حوار وطني لتجنيب البلاد الخراب"، في الوقت الذي دعا فيه إلى "معالجة جدية وسريعة لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري"، مستبعداً احتفاظه بأية شروط للحوار مع المعارضة داعياً إلى "مناقشة إقالة قادة الأجهزة الأمنية في مجلس الوزراء".
هذا هو موقف الحكومة المكلفة التي يبدو أنها ستواجه العديد من الأزمات، فأول ملامح تلك الأزمات هو رفض العديد من أطراف المعارضة الاشتراك في الحكومة قبل تنفيذ طلباتهم، وأهمها إقالة رؤساء الأجهزة الأمنية - حتى يتوفر الغطاء الآمن للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري- وهو مطلب نراه راجحاً من الناحية الموضوعية، إذ لا يمكن أن يجرى تحقيق نزيه في ظل وجود أطراف تتهمها المعارضة بالضلوع في عملية اغتيال الحريري!.
الموضوع الآخر أو الملمح الآخر للأزمة بين المعارضة والحكومة هو التصاق الحكومة المكلفة حالياً بالأجهزة الأمنية، وهو ما حذّر منه الزعيم وليد جنبلاط، حيث رفض دخول "حكومة يكون مركز قرارها الفعلي داخل الأجهزة الأمنية". في ذات الوقت أعلن أحد أعضاء الكتلة النيابية نفسها (أنطوان آندراوس) أن "عرض كرامي مرفوض.. وهو ليس رئيس حكومة وفاق.. هو طرف ولا يمثل الوفاق"، مشيراً إلى ضرورة تلبية شروط المعارضة أولاً، وهي الأسباب القائمة التي أدت إلى استقالة رئيس الوزراء.
أحد أعضاء لقاء "قرنة شهوان" الذي يرعاه البطريرك الماروني نصرالله صفير قال: إن عرض كرامي مرفوض، "لأن السلطة لن تكون بيديه، بل بيد الاستخبارات". تيار العماد ميشيل عون يرى أن تكليف كرامي لرئاسة الحكومة "يعني حكومة مواجهة من صنع سوريا، وهو دليل على التدخل السوري في شؤوننا وخضوع الحكم اللبناني لمشيئته"!
المعارضة كانت قد أطلقت شروطاً محددة لموافقتها على الدخول في الحكومة، وهي: كشف الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، والتعاون مع اللجنة الدولية للتحقيق، واستقالة أو إقالة المدعي العام التمييزي بالأصالة ورؤساء الأجهزة الأمنية، وتطبيق اتفاق الطائف الذي ينص على انسحاب القوات السورية واستخباراتها من لبنان استناداً إلى جدول زمني.
وفي الوقت الذي هدأت فيه حدة الاتهامات، أو بوادر شرارة الحرب على سوريا، بدأت مرحلة الدبلوماسية الدولية، حيث بدأ موفد الأمين العام للأمم المتحدة "لارسن" جولته في المنطقة لمناقشة الأزمة السورية-اللبنانية. في الوقت الذي عبّرت فيه بريطانيا عن "القلق" بشأن تكليف عمر كرامي بتشكيل حكومة جديدة بعد أيام من اضطراره للاستقالة تحت ضغوط شعبية. وقال وزير الخارجية البريطاني "سترو" إنه يشعر بالقلق إزاء الظروف التي ستجرى فيها الانتخابات الجديدة، لعدم وجود الظروف الكفيلة لتهيئة فرص متكافئة لجميع الأطراف.
في ذات الوقت نفت وزيرة الخارجية الأميركية "رايس" ما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز" الخميس الماضي نقلاً عن مسؤولين أميركيين، أن الولايات المتحدة تراجعت عن مطلبها بنزع أسلحة "حزب الله"؟ الذي تصفه بأنه "منظمة إرهابية". وكان قد تردد في الأوساط الأميركية أن وجود "حزب الله" يشكل قوة هائلة في لبنان، ويمكن أن يعوق الجهود الغربية لانسحاب القوات السورية من لبنان.
"حزب الله" - من جانبه- يدعو إلى اعتصام حاشد في طرابلس، وتعلن الأحزاب المشاركة في الاعتصام رفضها للقرار 1559، والتمسك باتفاق الطائف والوفاء لسوريا شعباً وقيادة وجيشاً لما قدمته للبنان، داعية في ذات الوقت إلى كشف جريمة اغتيال الرئيس الحريري، ومعاقبة المجرمين، وتجنيب البلاد الفتنة الطائفية، ودعم المقاومة ورفض التقسيم والتوطين. والجميل في هذه الاعتصامات وجود علم لبنان فقط، دون سائر أعلام الهيئات والأحزاب، وهو توجه حميد يصب في الروح الوطنية الواحدة للشعب اللبناني بغ