حضرت ندوة كان الحاضرون فيها يحاولون وضع تفاصيل مسؤولية المؤسسة التربوية للقيام بإذكاء المشاعر الوطنية في نفوس أطفال وشباب ذلك البلد، من أجل تغليب الولاء للوطن على الولاءات الفرعية المعروفة من مثل القبلية والعائلية والجهوية والمذهبية. ولقد أدت تلك الولاءات الفرعية إلى ممارسة العنف، وتهديد السلم الاجتماعي مما وضع الدولة والمجتمع في خطر داهم. وبالطبع فقد كان هدف الندوة نبيلا لكن الطرح والمعالجة شابتهما منطلقات خاطئة.
فأولا: إن الوطنية هي عبارة عن مشاعر حب وعشق للوطن وللأمة، وعن استعداد عاطفي للذود عنهما وحمايتهما بالنفس والنفيس. وهي لأنها كذلك تحتاج إلى توفر شروط موضوعية في الواقع تسبقها وتؤججها وتبقيها مشاعر حية في القلوب والنفوس. وبالطبع فإن تلك الشروط لا توفرها قصائد المديح للوطن، والغزل المفتعل بمنجزات للوطن، هي في أغلبها متخيلة ولا تمت بصلة للواقع المعيش، مما يقرؤه الإنسان أو يسمعه في الكتب المدرسية أو الصحافة أو شاشات التلفزيون والإذاعات الرسمية.
ثانيا: إن المشاعر الوطنية التي تسعى ماكينة الإعلام العربي الرسمي ليل نهار، وبصورة تثير الشفقة، لإذكائها في النفوس ستبقى عبارة عن كرنفالات كلمات وقرع طبول ما لم يصاحبها التزام الدولة بكل متطلبات رديفها وأعني به ممارسة المواطنة. بدون ممارسة حقيقية للمواطنة لن توجد مشاعر وطنية صادقة ومستمرة. والمواطنة ليست قضية عواطف ومشاعر، وإنما هي قضية قانونية وتنظيمية تفصل وتدعم حقوق المواطن وتطالبه بتحمل مسؤولياته. بدون توازن السلطات في المجتمع ستكون ممارستها منقوصة.
ثالثاً: وإذن فإن الطلب من الفرد أن يحب وطنه، أي أن يكون وطنياً، دون أن يبادله ذلك الوطن حباً بحب من خلال مساعدته ودعمه لممارسات كل حقوق المواطنة، هو طلب غير واقعي وعبثي. فالفرد الذي يشاهد التوزيع غير العادل لثروات الوطن، والذي يرى أقلية تهيمن على اتخاذ القرارات المصيرية دون أن تأخذ رأيه بعين الاعتبار، والذي يعاني من عدم المساواة في فرص تأمين غذائه ومسكنه وتعليمه وصحته وحصوله على وظيفية هذا الفرد الذي يرى الأغنياء يزدادون غنى والفقراء من أمثاله يزدادون فقراً وتهميشاً لا يمكن أن تكون لديه عواطف إيجابية نحو وطنه مهما أسمعناه من كلمات وأناشيد الحماس.
رابعا: وحتى مسؤوليات المواطنة من مثل مقارعة أعداء الوطن أو التعايش الأخلاقي مع بقية أفراد المجتمع أو القيام بالمسؤوليات السياسية من انخراط في المؤسسات السياسية أو في الانتخابات وغيرها يجب ألا ينتظر القيام بها قبل توفر الحقوق التي ذكرنا وتطبيقها في الواقع بأمانة ونزاهة، والذين يشجبون كثرة السرقات دون حل لمشكلة البطالة والفقر، أو يطالبون بالسلم الاجتماعي دون مواجهة لمشاكل التفرقة الطائفية أو العرقية أو العائلية ودون هيمنة القانون على الجميع إنما يجلدون الضحية ويمارسون التزوير الفكري والأخلاقي.
خامسا: إن مطالبة المؤسسة التربوية بالانخراط في عملية حب الأوطان، ونسيان أدوار المؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية هو طريق مسدود. إنه سيقلب المعلم إلى كذاب أحمق، وسيجعل من الكتاب المدرسي وثيقة زور وشهادة بهتـان.
الذي يجب أن تعلمه المدرسة هو أن المواطنة الحقة، بحقوقها ومسؤولياتهـا الحقة، يجب أن تسبق الوطنية ليكون للأخيرة معنى وسمواً ومذاقاً عذباً.