في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من مؤتمر، ومن على صفحات الصحف، وفي المناظرات والندوات، تعالت الأصوات، وقدمت أوراق العمل لتؤكد أن هناك خللا حقيقيا في مسيرة الإعلام العربي وخاصة الفضائي منه.
بحت الأصوات حتى أن شخصية عربية مؤثرة وفاعلة عندما سدت كل طرق الحوار بينها وبين والفضائيات العربية، أصرت على أن تتصدى لها مجردة من كل أسلحة الدمار الشامل إلا من سلاح حرصها على النشء، وقبل أن تدخل رهانا صعبا مستبشرة واثقة من قدرتها على تقديم بعض هذه الفضائيات إلى المحاكمة وليتها فعلت أو ليته يستطيع أن يفعل !!!
تمسك بجهاز التحكم عن بعد تتنقل بين المحطات الحكومية والخاصة لتهتز ثقتك بنفسك، ثقتك بأنك أب أو أنك مربٍّ أو أنك رجل إعلام، تكافح وتناطح دهاقنة الإعلام الرخيص القادرين على ابتكار أشكال وطرق وطعوم جديدة كل يوم لاصطياد ملايين من الشباب العربي التائه، في بحر لجي من الإسفاف والإحباط. وتتابع محطة حكومية ولا تعرف لماذا توجهت بسرعة نحو كنز الغرائز، وأدلت بدلوها فيه لتجذب مشاهدا تتصوره معدة ومقدمة البرنامج بأنه مسكون بالجنس، متسربل بالشذوذ، وتتخيل عزيزي القارئ واحدا من عدة أمور.
تتخيل أنك تعيش فعلا في وطن يمتد من طنجة إلى صلالة يعرف بالوطن العربي، وهو وطن كان مهدا لحضارات وقيم وفيه نزلت الشرائع السماوية، وفية كتبت أول الشرائع والقوانين، ومنه انطلق شعاع من نور يصنع حضارة عربية إسلامية، وتتخيل وهذا حلم مشروع أن كل الشوارع في هذا الوطن المبتلى مرصوفة، وأن المدارس تطوف حافلاتها المكيفة في الأحياء التي كانت تعرف بأحزمة الفقر، وتنزل الأخصائيات الاجتماعيات لإقناع الأهالي بأهمية ذهاب الأبناء إلى المدارس التي شيدت حديثا، وأن كل مدرسة بها عدد كبير من الفصول الدراسية المزودة بأحدث أجهزة الحاسوب، وأن كل غرفة درس لا يزيد عدد الدارسين بها عن عشرين طالبة أو طالباً، وأن المدرسة ستتكفل بنفقات التغذية، والكتب المدرسية والزي المدرسي، بالإضافة إلى راتب شهري، حتى لا يتسرب الأبناء إلى سوق العمل حمالين أو ماسحي أحذية، وتتسرب البنات إلى أسواق نخاسة اللحم الأبيض، وتصرخ مديرة المدرسة سنوفر لهم تعليما راقيا وسنضمن لهم مستقبلا باهرا ووظيفة محترمة.
تتخيل وهو حق مشروع أن الوطن العربي تغزوه جحافل الأطباء والممرضات وبه أحدث وأعرق المستشفيات، وأن الأمراض المعدية والسارية والقاتلة والفتاكة لم يعرفها الوطن العربي منذ عقود، وهنا تتأكد أنه لا حاجة إلى برامج تلفزيونية تتحدث عن الأخطاء الطبية القاتلة أو تخلف المستوى المهني للأطباء أو نقص الأدوية أو تاريخ انتهاء البطاقة الطبية، فالبطاقة تصرف بالمجان وهي صالحة للاستخدام من المهد إلى اللحد. وتحلم "حلم ببلاش".
إن مستقبل المنطقة العربية مثل ما يردد "العراق ما ينخاف عليه" وأنك في هذا الوطن قد أعدت بكل جدارة اختراع العجلة، وفككت سر صناعة الفلافل، وطورت مسيرة الأجيال لاقتحام الجبال باستخدام الحبال بعد أن سرقت الفكرة أو طورتها من "قرود" الغابة!!
وتتذكر أنه لا حاجة لبرنامج يتطرق لمناقشة مأساتك السياسية وقهرك الاقتصادي وتصدع منظومتك القيمية، فقد تصدت معدة ومقدمة برنامج حواري لما هو أهم وأجدر وعلى الفعل أقدر.
لا يختلف الأمر بين فضائية حكومية وأخرى تجارية، والتقاط صور مقربة للفعل الإعلامي الذي يتم الترويج له باعتباره إعلام المرحلة وإعلام الـ"نيولوك" الذي أصبح مثل العلامات التجارية المسجلة دليلا على خواء الفكر الإعلامي وسقوط الرسالة وتساقط الهدف وتحوله إلى شظايا حادة، أصبحت تجرح الروح والضمير بينما تلتهب الأكف حماسة للتصفيق لجوقة المطبلين. ونعود لطرح السؤال لإخراجك عزيزي القارئ من دوامة الحلم، لصالح من كل هذا وما هي الجدوى الإعلامية والمنهج التربوي والأخلاقي المبتغى عندما يتم الحديث عن الشذوذ الجنسي والسحاق واللواط بلغة مقززة مقرفة، ويشارك في الحوار شباب تتفتح ضمائرهم على توجه إعلامي يسوقهم نحو هاوية ومصيدة، أصبحنا كإعلاميين ندرك مراميها ونعرف توجهاتها، ولكن هذا المتلقي المسكين الذي تستثار غريزته وتحرك مشاعره المكبوتة، ماذا أرادت مقدمة البرنامج أن تقول؟ وقبلها... ماذا أرادت المؤسسة أن ترسل؟ ولمن؟ وما هي الأهداف إن وجدت في الأجندة الخفية؟ إن كانت الإجابة بـ"لا" نعرف أن هناك هدفاً وأجندة مخفية!! فإن الأمر يتطلب المحاسبة وفتح ملفات توجهات الرسالة الإعلامية ومراميها فأخلاق جيل بأكمله يجب ألا تترك نهبا لتجارب لا تستمد مشروعيتها من منهج علمي أو فكر تربوي، وإنما إرضاء للغرائز ودغدغة للمشاعر الرخيصة تحت ذريعة جذب أكبر عدد من المشاهدين. إن فكرة استخدام الجنس للترويج للسلع والخدمات فكرة قديمة قدم المجتمع البشري، وفكرة تسليع المرأة واعتبار جسدها مثيرا حسيا وفق نظرية المثير والاستجابة لطيب الذكر العالم الروسي "بافلوف" تم استخدامها بفعالية لغرض بيع أكبر عدد ممكن من السيارات، وقناني العطور والفوط النسائية، وكريمات الحلاقة الرجالية. وفي كل إعلان ك