يطرح تطور الأحداث التي فجرها الاغتيال المروع للرئيس رفيق الحريري والتظاهرات المتنافسة التي أعقبته، سواء أكان ذلك على جبهة المعارضة لتأكيد الانسحاب السوري الكامل، أو على جبهة الموالاة بإعلان الوفاء لسوريا وللنظام القائم، أسئلة عديدة على المراقب السياسي تتجاوز مسألة التحقيق في مسؤولية مقتل الحريري لتصب مباشرة في فهم مغزى التحولات الكبيرة التي أطلقها ولا يزال منذ الرابع عشر من شباط الماضي. هل كانت عملية اغتيال الحريري مناسبة لتفجير ما سيطلق عليه البعض اسم انتفاضة الحرية والتحرر والاستقلال عن السيطرة الغاشمة التي مارستها أجهزة أمنية خارجية وداخلية معا وتعبيرا عن استعادة الوعي والإرادة والمبادرة والوطنية اللبنانية بعد عقود طويلة من القهر و"الإرهاب" والتخوين أم كانت غطاءً لمؤامرة دولية أميركية فرنسية وسيراً أعمى في ركابها يعكس جهل المعارضة اللبنانية بالحسابات الجيوسياسية الدولية؟
من غير الممكن في نظري الفصل تماماً بين التظاهرات الوطنية الواسعة التي حصلت في لبنان بعد مقتل الحريري وردا عليه وبين السياق الإقليمي والدولي الذي خلقته المبادرة الاستراتيجية الواسعة التي تقودها الولايات المتحدة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 في إطار ما أطلقت عليه إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط برمتها، والذي طورته في السنتين الماضيتين ليصبح مبادرة إصلاح الشرق الأوسط ودفعه نحو الديمقراطية. ومن هذه الناحية، لا يخطئ الموالون للوضع العربي القائم، بما فيه الوضع القائم في دمشق، بوصفه، كما يقول أنصاره اليوم، آخر موقع للممانعة، عندما يشيرون إلى أن إخراج الجيش السوري من لبنان يندرج، بصرف النظر عن مدعياته، ضمن هذا السياق ويشكل مكسبا كبيرا للاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية التي أرادت دائما تفكيك المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، وفصل المسارين السوري واللبناني لإضعاف دمشق استراتيجياً، وفرض الاتفاقات المجحفة عليها. وليس هناك شك في نظري أن القضاء على المواقع الاستراتيجية السورية القوية في لبنان يشكل نكسة هائلة للاستراتيجية وليس فقط للدبلوماسية السورية، وأن المستفيد الوحيد منه استراتيجيا هو تل أبيب والحكومة الإسرائيلية اليمينية، التي رفضت ولا تزال ترفض أي مفاوضات جدية حول مسألة الخروج من الجولان المحتل الذي ألحقته بأراضيها منذ الثمانينيات.
لكن تأكيد هذا الواقع لا يقلل ذرة واحدة من مسؤولية القوى السورية اللبنانية الحاكمة في ما يحصل اليوم، ولا يبرر سياساتها غير العقلانية إن لم نقل إنه يضاعفها. فهو لا يبين فقط أنها لم تكن على مستوى التحدي التاريخي الذي تواجهه البلاد ولكن أكثر من ذلك، أنها فضلت تقديم مصالحها الخاصة على المصالح العامة، وفضلت التقاعس على العمل الجاد لمواجهة الأزمة ومواجهة الاستراتيجيات والخطط الأجنبية الرامية إلى إضعاف لبنان وسوريا معا. ولا يمكن تفسير عدم مبادرتها باتخاذ الإجراءات الاستراتيجية الضرورية أو التي بدأت تفرض نفسها منذ سنوات أو على الأقل منذ التصويت على قرار 1559 الذي فرض عليها التراجع أمام خصومها الأميركيين والفرنسيين إلا بأحد أمرين: أنها لم تكن تعتقد بجدية التهديدات الخارجية ولكنها كانت تستخدم شعار المؤامرة الخارجية من أجل تعبئة الشارع العربي وراءها على أمل التوصل إلى تفاهم ما مع القوى الأجنبية أو أنها لا تملك القدرة على التفكير الاستراتيجي الناجع والعقلاني في عالم يتغير بسرعة وفي بيئة جيوستراتيجية متغيرة ومتطورة يوما بعد يوم. وفي الحالتين تتحمل هذه القوى المسؤولية الرئيسية في ما آلت إليه الأوضاع السورية اللبنانية وذلك لجمعها بين الأمور الثلاثة، أعني لتقاعسها وسوء حساباتها ومراهنتها على الوصول إلى صفقة مع الدول الأجنبية وإدارتها الضعيفة وغير الناجعة للأزمة. ومما يزيد من حجم المسؤولية الواقعة على كاهلها أن هذه الأزمة لم تتفجر فجأة، ولكنها تنعكس منذ سنوات طويلة ولم يتوقف المحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجيون منذ سنوات عن لفت انتباه القوى الموالية إلى ضرورة إصلاح العلاقات السورية اللبنانية وإقامتها على أسس سليمة من دون جدوى. ومما يزيد من حجم هذه المسؤولية، ويلغي شرعية الحديث عن مؤامرة خارجية لإخفائها أيضا، أن الولايات المتحدة لا تتصرف في الشرق الأوسط من وراء قناع، ولكنها لا تكف منذ سنوات عن التصريح بمضمون ما تريد تحقيقه من أهداف وفي مقدمها إعادة هيكلة العلاقات داخل المنطقة الشرق أوسطية على أسس تتفق وغايات السيطرة الأميركية. والأكثر من ذلك، أن أحد أهم الأطراف التي لعبت دورا حساسا في تفجير الأزمة لغير صالح سوريا هي الدبلوماسية الفرنسية التي كانت من أكثر الدبلوماسيات الغربية والعالمية دفاعا عن الوضع السوري ودعما له وبالتالي صلة به وتواصلا معه. ولا تتردد هذه الدبلوماسية في التذكير بأنها لم تلجأ إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يفرض على القوات السورية الانسحاب من لبنان إلا بعد إخفاق جميع الحلول والتدخلات الدبلوماسية الأخرى. مما يعني أن دمشق أخفقت في فهم