تقول العرب: القناعة كنز لا يفنى. وأظن أنهم كانوا يرون ذلك، لأن صناديق بريدهم، وحمامهم الزاجل، وربما حتى "إيميلاتهم" لم تكن تقذف إليهم نهاية كل شهر بفواتير واجبة السداد لخدمات وكماليات ينوء بحملها العصبة أولي القوة، فكيف بمن انساق لأنماط استهلاكية، لم يختر منها شيئاً، بل أجبرته لوحات الدعاية والإعلان على الولوج في وحلها، شاء من شاء وأبى من أبى، فمن رضي فله الصرف، ومن سخط فله الصرف أيضاً، ويا جيب لا تحزن!.
بدا لي وأنا أقرأ خبراً قديماً من تايلاند أن المثل يجب أن يكون "الدلاخة" كنز لا يفنى. و"الدلاخة" كلمة عامية تتردد في جنبات معظم دول الخليج، يراد بها البلادة، وأحسب أن لها أصلا في اللغة ففي المحيط: "دلخ" الإناء: امتلأ حتى فاض؛ إذا "دلخ" الإناء فقد خسر البائع. وفي الكلمة العامية يمكننا القول إن فلاناً "دلخ" عقله إذا فاض عن الطبيعي، فذهب التمييز أدراج الرياح، فأما الزبد فيذهب جفاءً، وليس له فيما ينفعه من عقل بقية!.
بطل قصتنا القائم بدور "الدلخ" هو أستاذ جامعي، ويبدو أن الدال التي تسبق اسمه هي اختصار "دلخ"، لا دكتور، مع الاعتذار من جميع من يقطن الحرم الجامعي من أساتذة ومعيدين وطلاب علم، وموظفي صيانة، وعمال نظافة.
صاحبنا البطل تعرض لعملية نصب محترمة ومن النوع اللي عليه القيمة، لأنه انساق لـ"دلاخته"، كفانا الله وإياكم حالات "الدلاخة" التي قد تطرأ علينا أحياناً، وفي هذا السياق، أشير إلى أن هذه الحالات لابد من المرور عليها، ولا يسلم منها أحد، فمُستقِل ومُستكثر.
أما المسؤول عن انسياق الدكتور التايلاندي وراء "دلاخته"، فهي الثقافة التايلاندية، والمناهج بكل تأكيد غير بعيدة عن هذه الثقافة، فهي لم تعلمه يوم كان صبياً أن القناعة كنز لا يفنى، ولا يستحدث من العدم أيضاً.
أبلغت جهة الكترونية "دلخنا" الموقر عبر "الإيميل" بأنه فاز في مسابقة يانصيب جائزتها فقط 4 ملايين يورو، وأرفقت هاتفاً للتحقق والتواصل، فلم يكذب صاحبنا خبراً، سحب السماعة وخبط مكالمة دولية، فرد عليه رجل أكد له فوزه في المسابقة، وأرشده إلى طريقة لفتح حساب مصرفي في بنك استثماري دولي معين لتحويل المبلغ الذي فاز به. انصاع "دلخنا" الموقر للتعليمات، فحوّل النصابون مبلغاً إلى الحساب، لكن الدكتور لم يتمكن من تحويل الأموال إلى حسابه في بلاده، وقيل له إن عليه أن يسدد ضرائب ورسوماً تأمينية، ففعل. عندما وجده النصابون من النوع الذي لا يردُّ يَدَ لامِس، طلبوا منه تحويل مبلغ مماثل للمبلغ الأول (47.5 ألف دولار أميركي) مرة أخرى، فاستيقظ ذكاؤه الفطري من سباته، وتداعت حاسته السادسة، وأحس بحدس بالغ أن وراء الأكمة ما وراءها، ولكن بعد خراب مالطة وبانكوك معاً!!
تذكرت هذه القصة من جديد، قبل أيام يوم اتصل رقم خارجي على هاتف صاحبي ذي الرقم السعودي زاعماً أنه وكيل إحدى شركات الهاتف النقال في أبوظبي، ليعلن له أنه فاز بخمسة ملايين درهم، في مسابقة لم يشترك فيها أصلاً، طالباً منه رقم حسابه. قال لي صاحبي: ماذا سأخسر إذا أعطيته رقم حسابي، حتى لو كان نصاباً. قلت له وقتك، وانكسار نفسك التي تاقت لخمسة ملايين درهم، فتحولت الدراهم إلى خمسة ملايين حسرة.
إذا أردت أن تصبح "دلخاً" مع مرتبة الشرف، صدِّق أنك فزت في مسابقة لم تشارك بها أصلاً!.