مبدأ تكافؤ الفرص من المبادئ العظيمة التي أرساها الفكر الليبرالي في العصر الحديث، وهو مبدأ يعني فيما يعنيه قيام العمل في المجتمع على مبدأ الكفاءة والجدارة الفردية في تولي الأعمال وبشكل متساوٍ بين الأفراد. وهذا مبدأ منعدم الوجود في عالمنا العربي، حيث الواسطة هي العمود الفقري للوصول إلى المناصب المختلفة. وللأسف أن هذا الأسلوب السيئ في الاختيار قد جعل الكفاءة تتوارى خلف الواسطة، بمعنى أن الأمر قد أصبح من السوء بمكان أن الكفؤ بات بحاجة إلى واسطة لكي يتحصل على فرصة لإثبات كفاءته، مما دفع بالأفراد إلى السعي لإقامة شبكة من العلاقات الخاصة مع أصحاب النفوذ لكي يحصلوا على الوظيفة أو على الترقية، وزاد الأمر سوءاً في بعض البلاد العربية مثل الكويت، أن زيادة العلاقة مع الجماعات الدينية أصبحت سبيلاً سهلاً للوصول إلى المنصب والنفوذ والثروة ولا يحتاج الأمر منك سوى تربية لحية وتقصير دشداشة.
وبسبب هذا الأسلوب في الإدارة، بل وفي الحياة أيضاً، أخذت الأمور في الانحدار تدريجياً، ليس في مجالات العمل المختلفة، بل وفي أسلوب التعامل اليومي، حيث أصبح همّ البحث عن الواسطة أهم من المعاملة المطلوب إنهاؤها، بل لقد رسخ في ذهننا جميعاً أنه لا شيء يمكن أن يتم بدون واسطة! ومما يؤلم حقاً أن الطالب الجامعي قد أصبح مقتنعاً بكل يقين أنه لا فائدة من الشهادة أو العلم أو الثقافة ما لم تكن لديك واسطة تسهل لك الأمور، وهذه هي الكارثة الحقيقية التي نعيشها بدون وعي. وبسبب هذا التصور المهيمن للواسطة سقطت قيم أهمية التعليم والتثقيف، بل وصل الأمر بوجود مسؤولين عن الثقافة وليس لهم في الثقافة على المستوى الشخصي نصيب، لا لشيء سوى أنه أتى عن طريق الواسطة. وهناك مثقفون حقيقيون، لكنهم وصلوا إلى مناصبهم عن طريق العلاقات الشخصية، لا بسبب ثقافتهم. لهذا كثيراً ما يضحك المواطن حين يسمع من المسؤول أن الدولة التي يعيش فيها هي دولة قانون!
الكارثة الحقيقية لكل هذا أن انعدام تكافؤ الفرص في المجتمع يؤدي إلى انعدام الثقة بقيم المواطنة وأهمية العمل والإخلاص فيه، بل والإيمان بعبثية الحياة حيث تسود القناعة الذاتية بأن من يعمل مثل الذي لا يعمل، بل وصل الحال بنا أن أخذ البعض يهزأ بمن يعمل بالقول، إن من يعمل يخطئ ولابد أن يعاقب على خطئه، وأن من لا يعمل لا يخطئ وتناله الترقية. ولذلك يمكن القول بقدر كبير من الثقة إننا نعيش في أوطاننا حُباً في الوطن ذاته، لكننا لا نحترم الدولة، فلا نحرص على تقديم خدمة جيدة ولا نحرص على المال العام، إن لم نعتدِ عليه بالتجاوز والتطاول.
لقد أدى انعدام مبدأ تكافؤ الفرص في مجتمعاتنا إلى انتشار الرشوة والتسيّب الوظيفي والفساد الإداري. وهذا أحد تداعيات غياب العدل الاجتماعي. وقد قال ابن تيميةً: "إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة.. لأن الناس جميعاً آمنوا أن عاقبة العدل كريمة وأن عاقبة الظلم وخيمة".
الحل الوحيد لهذه الكارثة الأخلاقية، أن يبدأ كبار المسؤولين بأنفسهم، وذلك حتى ينتهي المنحرف عن السبيل السوي عن غيّه، لكن للأسف أن هذا غير مقبول، لذلك سيظل غير الكفؤ صاحب العلاقات العامة متربعاً على المنصب الوظيفي يمارس لا كفاءته، بكل كفاءة. ولهذا لن تتقدم الدول العربية حضارياً، ولهذا قيل: "العدل ميزان السماوات والأرض".