في الأول من فبراير الماضي، أصدرت الأمم المتحدة نتائج تقرير بدا وكأنه يحمل في طياته أخبارا طيبة، وينطوي على قدر كبير من الأمل، في انقضاء واحد من أسوأ الصراعات التي شهدتها قارة أفريقيا في تاريخها.
وقد حظي هذا التقرير باهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام، حيث قالت وكالة الأنباء الفرنسية في عنوان رئيسي لها "تقرير الأمم المتحدة يبرئ حكومة السودان من القيام بأعمال إبادة جماعية في دارفور". كما قالت صحيفة "سان بيتسبورغ تايمز" الروسية: "لجنة الأمم المتحدة لا ترى أية أعمال إبادة جماعية في دارفور". بينما ورد خبر آخر في صحيفة "نيويورك صن" الأميركية يقول:"تقرير عن دارفور يقول إنه لم تحدث أعمال إبادة جماعية هناك".
ويذكر أن التقرير المكون من 176 صفحة، والذي أعدته لجنة الأمم المتحدة المكلفة بالتحقيق في الصراع الدائر في غرب السودان، احتوى على قائمة طويلة من الشكاوى التي تقدم بها السكان المحليون، كما تضمن أيضا لوما شديدا لحكومة الخرطوم. مع ذلك فإن ذلك التقرير بدا للكثيرين وكأنه قد ترك حكام السودان يفلتون من العقاب، وذلك عندما لم يصف أفعالهم بأنها تندرج تحت بند الإبادة الجماعية.
ولكن ذلك - في نفس الوقت- لا يعني أن التقرير قد أعطى الحكومة السودانية صكا بالبراءة عما تم ارتكابه ضد سكان الإقليم البؤساء. فالحقيقة أن التقرير قد تحدث بالتفصيل عن الفظائع التي ارتكبتها مليشيات "الجنجويد"، والتي اشتملت على أعمال إغارة على القرى، وأعمال سلب ونهب، وقتل من دون تمييز، واغتصاب، وانتهاكات جنسية أخرى، ووقائع تعذيب، أدت أدى إلى تشريد وتغييب ونزوح، ما يزيد على مليون ونصف المليون من سكان "دارفور"، من ديارهم إلى المناطق والبلدان المجاورة.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن الحقيقة التي تبقت في أذهان كل من قرأ ذلك التقرير هي: أنه لم تجر هناك أعمال إبادة جماعية في دارفور، وبالتالي فلم يكن هناك مبرر للعالم كي يتدخل في الصراع لوضع حد له كما حدث في غيره من صراعات تدخل فيها المجتمع الدولي.
والمشكلة كما يشير تقرير الأمم المتحدة عن "دارفور" أن حدوث عمليات "إبادة جماعية" أمر يصعب التحقق منه بشكل يقيني، كما يصعب كذلك ربطة بجنس، أو عرقية معينة، أو دين، بشكل يصبح من الممكن معه التفريق بينه وبين غيره من أنواع الجرائم البشعة.
ويذكر هنا أن مصطلح "الإبادة الجماعية" هو مصطلح صكه يهودي بولندي يدعى "رفائيل ليمكين"، كان قد هرب من أهوال النازية، وساهم فيما بعد في تعريف المصطلح، وكسب الدعم والمساندة للمؤتمر الذي عقد عام 1948 لمنع أعمال الإبادة الجماعية.
وحسب تعريف القانون الدولي فإن الإبادة الجماعية هي:"جريمة تتم بنيّة محددة، تقوم فيها الأطراف المذنبة، بتدمير جميع، أو جزء من مقومات مجتمع ديني أو قومي أو جنسي أو عرقي". أما تعريف "النية" الحقيقية لمن ارتكبوا تلك الجرائم، في وقت ارتكابها، فأمر يكتنفه قدر كبير من الصعوبة.
وهكذا فإنه عندما تم مثلا القبض على أحد الجنرالات الصرب الذين شاركوا في مذبحة "سريبرينيتشا"، والتي قتل فيها ثمانية آلاف رجل وامرأة وطفل من المسلمين، لم ينجح قضاة المحكمة التي حاكمته سوى في إدانته بالمساعدة في، والتحريض على، ارتكاب أعمال إبادة جماعية - وليس ارتكابها- لأنهم عجزوا عن تحديد "نيته" عند ارتكاب تلك الأعمال.
وإذا كان التغلغل داخل عقول القتلة، يمثل تعقيدا من التعقيدات التي تكتنف التحقيق في جرائم الإبادة الجماعية، فإن تعريف وتصنيف الضحايا يمثل تعقيدا آخر. فعلى سبيل المثال رأينا اللجنة الخاصة المكلفة بالنظر في أحداث "دارفور" تغرق نفسها في التفاصيل الخاصة ببنية القبائل المحلية، وذلك قبل أن يتمكن كاتبو هذا التقرير في النهاية، من استنتاج أن السكان الذين كانوا ضحايا لتلك الاعتداءات كانوا ينتمون إلى عرقية مختلفة. وعلى الرغم من أنهم توصلوا إلى معرفة ذلك في النهاية، فإنهم لم يتمكنوا من تحديد "نية" من قاموا بتلك الفظائع ضد تلك العرقية أو توثيقها.
إن التركيز الشديد على "الإبادة الجماعية" قد جعل تقرير الأمم المتحدة الذي يوثق حدوث فظائع واسعة الانتشار، يبدو وكأنه قد جاء كي يوفر غطاءً أخلاقيا للفتور والكسل الرسمي، الذي انتاب الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي أو حتى الصين وروسيا.
هناك بديل عملي لهذا التركيز الشديد على تعريف الإبادة الجماعية، وهو استخدام وصف "جرائم ضد الإنسانية"، الذي تم استخدامه في وصف الجرائم التي ارتكبت ضد "الأرمن" بعد الحرب العالمية الأولى، والذي استخدم كذلك في محاكمات "نورمبرج" بعد الحرب العالمية الثانية.
والسبب الذي يدعونا لاقتراح استخدام مثل هذا المصلح، هو أنه أوسع نطاقا، وأسهل تعريفا، وفي نفس الوقت يحمل نفس القدر من القوة المعنوية.
علينا بعد ذلك أن نقوم بتحويل مجرى النقاش من المجردات إلى الواقع العملي. فهناك خطوات عملية بسيطة يمكن للولايات المتحدة القيام بها لمحاربة القتل الجماعي والجرائم التي تقع في "دارفور"، دونما حاج