تعاني دول مجلس التعاون الخليجي من معدلات تضخم نقدي منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين، فتكون مرتفعةً أحياناً، حيث قد تصل إلى 20% سنوياً وتكون منخفضةً في أحايين أخرى، حيث قد لا تتجاوز 2% سنوياً بمعيار الرقم القياسي لأسعار المستهلك. بيد أن معدلات التضخم النقدي قد ازدادت حدتها مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وخاصة خلال الثلاث سنوات الأخيرة، حيث تراوحت ما بين 4%-12% سنوياً بالرقم القياسي لأسعار المستهلك. وهي تتفاوت تفاوتاً نسبياً من دولة خليجية إلى أخرى، ومن قطاع اقتصادي إلى آخر. وبما أن الرواتب والأجور ثابتة فإن ذلك يعني بالمنطق الاقتصادي انخفاض القيمة الحقيقية للرواتب والأجور سنوياً بالمعدل الفعلي للتضخم النقدي، وبالتالي انخفاض القوة الشرائية لوحدة النقود. والتضخم النقدي لا يقتصر ضرره على المستهلك فقط وإنما يمتد ليشمل كافة القطاعات الاقتصادية. فهو يعمل على تدني مستوى رفاهية المجتمع، وفي كثير من الأحايين يؤدي إلى انخفاض هامش الربح لدى المنتجين، خصوصاً عندما تكون مرونة الطلب السعرية على السلعة أو الخدمة عالية، وعندما يكون مستوى المنافسة قوياً في السوق. فما هي الأسباب التي تقف وراء ظاهرة التضخم النقدي الذي يجتاح اقتصاديات المنطقة؟ وهل هو ظاهرة عالمية أم أنه مقتصر على دول المنطقة؟ وهل هناك حلول علمية لمعالجته أو التخفيف من حدته في كل من المدى القصير والبعيد؟
يعرف الاقتصاديون التضخم النقدي بأنه "ظاهرة نقدية تنشأ في الاقتصاديات التي تستخدم النقود بسبب نمو كمية النقود بمعدلات عاليةٍ جداً تفوق متوسط معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الفعلي ومعدل نمو الاحتياطات من الذهب والفضة والعملة الصعبة لدى المصرف المركزي ومعدل نمو استثمارات المصرف المركزي في السندات وأذون الخزانة مجتمعة. ويؤدي زيادة كمية النقود بتلك المعدلات العالية إلى ارتفاع الأسعار المصحوب بانخفاض القيمة الحقيقية لوحدة النقود وانخفاض القوة الشرائية لها". ويعتبر التضخم النقدي ظاهرة اقتصادية عالمية، ومشكلة مزمنة عجز عن علاجها كافة الاقتصاديين. بيد أن الاقتصاديين يضعون لها حلولاً قد تخفف من حدتها وتعمل على تخفيض معدلات نموها. وبما أن التضخم النقدي ظاهرة اقتصادية عالمية، فإن هناك أسباباً دولية وأخرى محلية لنشوئه يمكن توضيحها بالآتي:
1- تفاقمت ظاهرة التضخم النقدي عالمياً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وذلك بسبب اتباع الولايات المتحدة للسياسات الاقتصادية التوسعية (أي التضخمية) الرامية إلى إعادة إنعاش الاقتصاد الأميركي للخروج به من حالة الكساد التي وقع فيها. ومن أبرز تلك السياسات تخفيض أسعار الفوائد المصرفية محلياً وإلزام كافة اقتصاديات العالم باتباع تلك السياسات بسبب هيمنة الدولار الأميركي على النظامين النقدي والاقتصادي العالمي. ورغم أن تخفيض معدلات الفوائد المصرفية قد يؤدي إلى تخفيض تكاليف الإنتاج ومن ثم تخفيض أسعار السلع والخدمات، إلا أنه في ظل تلك الظروف الاقتصادية قد تكون تلك الآثار غير واضحة حيث تغلب الآثار السلبية وتزداد الأسعار ربما لزيادة الطلب الكلي أو ارتفاع تكاليف الإنتاج الأخرى مثل الشحن والنقل والتأمين. ومن تلك السياسات أيضاً سياسة تخفيض الضرائب، والتي صاحبتها زيادة الإنفاق الحكومي، وخاصةً الإنفاق العسكري، الذي اقترن بسياسة التمويل بالعجز (أي سياسة زيادة إصدار الدولارات غير المغطاة) والتي أثرت بشكل كبير على تدهور سعر صرف الدولار الأميركي والعملات المرتبطة به في أسواق الصرف العالمية. ورغم أن الاقتصاديين ينظرون إلى تدهور سعر صرف الدولار في هذه الظروف الاقتصادية كظاهرة إيجابية من حيث كونه يوفر للولايات المتحدة الأميركية ميزة تنافسية نسبية في التجارة الخارجية، إلا أن ذلك التدهور ليس مقصوداً لذاته، بل فرضته الظروف والسياسات الاقتصادية التي أوضحناها. أما العلاج من هذه الزاوية فلابد بالطبع من أن يكون تدريجياً، وقد بدأ بالفعل عندما أخذت الولايات المتحدة الأميركية في اتباع سياسات انكماشية يأتي على رأسها رفع أسعار الفوائد المصرفية، والذي بدأ بالفعل منذ حوالي عامين، وانتشر تباعاً في كافة دول العالم. بيد أن آثاره الإيجابية في معالجة التضخم النقدي لم تكن كبيرةً بسبب وجود الأسباب الأخرى المدعمة للتضخم النقدي. ورغم أن ارتفاع أسعار الفوائد المصرفية من شأنه أن يؤدي إلى تقلص النمو الاقتصادي وقد يؤدي بالتالي إلى انخفاض معدلات التضخم النقدي، إلا أنه قد يؤدي أيضاً إلى ارتفاع تكلفة رأس المال ومن ثم ارتفاع تكاليف الإنتاج ثم إلى زيادة معدلات التضخم النقدي. ومن هذا المنطلق فإن رفع أسعار الفوائد المصرفية بهدف تقليص النمو الاقتصادي لا يمكن الحكم على تأثيره على التضخم النقدي إلا بتجربته على أرض الواقع.
2- لقد تسبب سعر صرف الدولار الأميركي بارتفاع سعر صرف اليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني والعملات الرئيسة الأخرى المقبولة عالمياً في تسوية المديونيات الخارجية. وبناءً عليه ازدادت القد