في يوم الجمعة الماضي، الموافق الحادي عشر من مارس الجاري، وعلى امتداد خمس دقائق كاملة، وقفت أسبانيا بأسرها، إحياءً للذكرى الأولى لضحايا أبشع هجوم إرهابي عرفته في تاريخها الحديث. فقبل عام من ذلك التاريخ، كانت مجموعة من المقاتلين المتطرفين، قد نجحت في تنفيذ عملية تفجيرات مروعة، في ثلاثة من القطارات في العاصمة مدريد، في الساعات الأولى من ذلك اليوم المشؤوم. وقد أسفرت تلك العمليات عن مصرع 191 شخصاً، وإصابة عدد يصل إلى 1900 آخرين. أي أن القطارات الثلاثة، تحولت إلى مسرح للقسوة والعرض الدموي، الذي اختلطت فيه دماء المصابين بأشلاء الضحايا، وصراخ الأطفال بعويل النساء وولولتهن. وبالنظر إلي ما حدث من ناحية تاريخية، فليس ثمة مغالاة في القول، إنه كان الهجوم الإرهابي الأسوأ على الإطلاق، الذي تعرضت له القارة الأوروبية بأسرها، منذ حادثة إسقاط طائرة "بان أميركان" فوق سماء ضاحية "لوكربي" الأسكتلندية في عام 1998، وهي الجريمة التي اعترفت بها ليبيا مؤخراً، والتزمت بتعويض أقارب ضحاياها عما حل بركابها من موت ودمار.
وفي المتنزه الرئيسي بالعاصمة مدريد، كشف الملك الإسباني "خوان كارلوس" وزوجته الملكة "صوفيا"، عن نصب تذكاري أطلقا عليه تسمية "غابة الغائبين" وهي عبارة عن مجموعة مؤلفة من 192 شجرة زيتون وسرو، ترمز كل واحدة منها إلى ضحية من ضحايا مجزرة القطارات الثلاثة، إضافة إلى واحدة أخرى، ترمز إلى ضابط الشرطة الذي لقي مصرعه أثناء محاولته إلقاء القبض على بعض المشتبه فيهم بتنفيذ الهجمات. ومما لا شك فيه أن الهجمات المذكورة قد أحدثت انقلاباً كبيراً في المسرح السياسي الإسباني. ففي الانتخابات العامة التي أعقبتها بثلاثة أيام فحسب، جرت الإطاحة بحكومة "خوسيه ماريا أثنار"، اليمينية الموالية للولايات المتحدة الأميركية، وتم استبدالها بحكومة اشتراكية تحت قيادة "خوسيه لويس ثاباتيرو". وكان أول ما فعله "ثاباتيرو"، استدعاء قوات بلاده التي شاركت الولايات المتحدة حربها على العراق، وهو القرار الذي أبدت إزاءه الغالبية الإسبانية ارتياحاً وغبطة عارمتين. ولم يكتف "ثاباتيرو" بسحب القوات الأسبانية من العراق فحسب، بل مال أكثر إلى صف كل من فرنسا وألمانيا، اللتين عارضتا الحرب من الأساس.
كما دشن "ثاباتيرو" برنامجاً شجاعاً للإصلاح الاجتماعي، يقوم على إصدار تشريعات جديدة، سهلت بموجبها إجراءات الطلاق، وسمحت بزواج المثليين، إضافة إلى فرض رقابة مشددة على التعليم الديني في المدارس الحكومية. وكان طبيعياً أن تثير هذه الخطوات، حفيظة ومعارضة الكنيسة الكاثوليكية، التي أعرب خلالها البابا "يوحنا بولس الثاني" نفسه، عن استهجانه لما أسماه بـ"مناخ التحلل" في أسبانيا. غير أن "ثاباتيرو" لم يعرْ تلك الاحتجاجات اهتماماً. بل حقق رئيس الوزراء الجديد، نجاحاً آخر خلال الأسبوع الماضي، عندما صوت مؤتمر الأساقفة الأسبان بإقالة رئيسه السابق الكاردينال "روكو فاريلا" - الذي ينظر إليه دائماً على أنه يد البابا القوية في أسبانيا- والمقرب سياسياًَ من حكومة "أثنار" اليمينية السابقة. وبدلاًَ منه اختار المؤتمر "المونسينيور ريكاردو بلاثكيث"، أسقف "بيلباو"، الذي عرف بتسامحه ورحابة صدره وانفتاحه للحوار.
لكن على رغم هذا الانقلاب الذي أحدثته هجمات مارس الإرهابية على أسبانيا، إلا أن ردة فعل هذه الأخيرة على الإرهاب، تظل مختلفة بدرجة كبيرة، عن ردة فعل واشنطن على هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001. فهنا في أسبانيا، لم تتأجج نيران الوطنية وكرنفالات التلويح بالعلم الوطني الأسباني، مثلما كان عليه الحال في الولايات المتحدة. كما لم تؤد الهجمات التي تعرضت لها، إلى فرض حجر وقيود على الحريات المدنية، ولم يتحول العرب والمسلمون بعدها في نظر الأسبان، إلى شياطين وعفاريت تجب ملاحقتهم ومطاردتهم، ولم تستعر بينهم نيران الكراهية للغرباء، كما لم تغل في دمائهم رغبة الحقد والانتقام مثلما حدث في أميركا. وفوق ذلك وقبله، لم يعلن الأسبان حرباًَ دولية على الإرهاب، على غرار تلك التي شنها الرئيس بوش. وحتى اليوم، فإن أسبانيا لا تعتبر نفسها في حالة حرب مع الإسلام الراديكالي.
وبالطبع فإن هناك جملة من الأسباب التي تفسر هدوء بل "نضج" ردة الفعل الأسبانية إزاء الهجمات، مقارنة مع ردة فعل واشنطن. ولعل أبرزها أن أسبانيا ظلت على علاقة خاصة وحميمة مع العرب تحت كل الظروف، وذلك لعدة عوامل تاريخية وجغرافية معلومة. ولهذا السبب، فليس ثمة غرابة أن كان الملك محمد السادس ملك المغرب، من بين أبرز الحضور والضيوف، في مناسبة تأبين ضحايا الهجمات التي ورد ذكرها آنفاً. وفي الوقت ذاته، فقد جرت إعادة اكتشاف منطقة الأندلس الواقعة في جنوبي أسبانيا مؤخراً، على أنها تمثل تراثاً قومياً تاريخياً، للفتح العربي الذي دام هناك، زهاء 800 عام بالتمام والكمال. وهناك سبب آخر، يتمثل في أن لأسبانيا - خلافاً لما هو عليه حال الولايات المتحدة الأميركية- تاريخاَ وتجربة طويلة في التعامل مع الإرهاب.